منصات المشاهدة الرقمية تُعيد تشكيل الدراما العربية

"من الكمبيوتر إلى الشاشة" عبارة جديدة صارت متداولة في الوسط الإبداعي لتُعيد رسم الدراما وفن السرد العربي تأثرا بنشوء المنصات التلفزيونية الرقمية وتطوّرها، الأمر الذي حفّز الكثير من الروائيين العرب على الكتابة مباشرة للدراما دون المرور بقوائم الكتب الأكثر مبيعا التي يتم تحويل غالبيتها فيما بعد إلى أعمال فنية.
القاهرة – كان لميلاد نتفليكس وشاهد وووتش إت وغيرها من المنصات الرقمية فتح للرواية في العالم العربي وفرصة لتخليد الحكائين وتشجيعهم على الوصول إلى الدراما وما تحقّقه من انتشار عبر تحويل ما يكتبونه إلى محتوى مرئي ومسموع باق وأكثر إشعاعا من الكتب.
ولئن اعتمدت المنصات الرقمية في البداية على روايات ذائعة لتعيد معالجتها فنيا، لتُصبح أعمالا درامية أو سينمائية تُعرض على شاشاتها، فقد صارت الآن تستقبل أعمالا مكتوبة خصيصا لها، ومتوافقة مع اشتراطاتها وسماتها للتنفيذ الفوري دون المرور بفكرة النشر الكتابي أولا.
واعتبر الكثيرون قيام نتفليكس بالمشاركة في إنتاج مسلسل “ما وراء الطبيعة” -المأخوذ عن سلسلة روايات للكاتب الراحل أحمد خالد توفيق تحمل العنوان نفسه- وعرضه في نوفمبر الماضي وقيام منصة شاهد بإنتاج وعرض مسلسل “في كل أسبوع يوم جمعة” -المأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته للروائي إبراهيم عبدالمجيد- بداية طيبة لفتح نافذة أمام الروائيين للانفتاح على العالم وطرح حكاياتهم عليه. لكن جاء التطوّر أسرع ممّا يتخيل البعض، حيث دفعت زيادة الطلب على القصص العربية معظم المنصات إلى منح الأولوية في قبول الأعمال المعروضة لتلك المكتوبة مباشرة لها.
ويرى بعض الكُتاب أن تطوّر المنصات الرقمية وانتشارها يسهمان في تحوّل الكثير من الروائيين إلى كتابة السيناريو مباشرة، بدلا من الدخول في تفاصيل كتابة الروايات أولا ثم المرور بتجربة النشر وصولا إلى الفن التمثيلي.
ووجد البعض من الراغبين في تقديم أعمال درامية في سوق الرواية المنشورة طريقا تقليديا، يبدأ بنشر العمل ثُم الترويج له، ليدخل ضمن قوائم الكتب الأكثر مبيعا، وعرضه بعد ذلك على المخرجين لتحويله إلى عمل فني.
وقال المخرج والسيناريست المصري آدم عبدالغفار لـ”العرب” إن “التطوّر الذي شهدته المنصات في المجتمعات العربية يدفع الكثير من الروائيين ومبدعي الحكايات إلى الكتابة مباشرة للشاشات اختصارا للوقت”.
وأضاف أنه قضّى عدة سنوات يكتب روايته الخاصة التي يحلم بها، لكنه لم يُكملها بسبب رغبته في الالتحاق بفرصة صناعة المحتوى مباشرة عبر إحدى المنصات، وقدّم فكرة وسيناريو مسلسل “نمرة اتنين” لإحدى الشركات المتعاونة مع شاهد ليتمّ تنفيذه وعرضه من خلالها ولقي العمل نجاحا مبهرا.
وأوضح أن مثل هذا التوجه أفضل من قيام روائيين شباب بكتابة روايات وفي أذهانهم فكرة تحويلها إلى أعمال فنية، لأن الكتابة في تلك الحالة تكون مقيّدة ومحكومة بتوجهات واشتراطات معدة سلفا.
وأشار إلى أن متعة الرواية تختلف تماما عن السيناريو، فالروائي يستمتع بدكتاتوريته في تسيير أحداث حكايته، أما كاتب السيناريو فيعرف جيدا أنه يخضع لرؤية سمعية وبصرية وإنتاجية وتمثيلية قد تدفعه في بعض الأحيان إلى تقليص هامش الحرية في التعامل مع شخوصه.
ويفضل عبدالغفار أن يقوم الكتاب الراغبون في التعامل مع المنصات بالكتابة مباشرة لتلك المنصات، ويتم ذلك من الكمبيوتر الشخصي إلى الشركة المنتجة المتعاقدة مع المنصة مباشرة، وهذا التوجّه يختصر الكثير من الجهد والوقت ويحافظ على جمال التحرّر لدى مبدع الروايات.
وذكر أن هناك أعمالا جيدة كتبت مباشرة لنتفليكس وحقّقت نجاحا مبهرا مثل المسلسل الإسباني “لا كاسا دي بابيل”، ويُعرف أيضا باسم “بيت من ورق”، واشتهر باسم “البروفيسور”، حسب ترويج شبكة نتفليكس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا له.
وهو مسلسل سرقة وسطو إسباني من إنتاج “ألكس بينا” لشبكة “أنتينا 3″، ويتكون من سلسلة محدودة بُثت لأربعة مواسم، وأضيف الموسم الأول لنتفليكس، ثم أعيد تحريره ليصبح 13 حلقة بدلا من 9 حلقات.
نص وعدة مؤلفين

في الكثير من نصوص المنصات التي تم تنفيذها حديثا عدم اقتصار كتابة النص على مؤلف واحد، مثلما هو الحال في المسلسل المصري “إسعاف يونس” الذي بدأ عرضه في ديسمبر الماضي على قناة ووتش إت، حيث قام بتأليفه فاروق هاشم ومصطفى عمر، وكتبه أحمد محارب وأحمد فوزي وخليفة سمير.
وينطبق الأمر ذاته على مسلسل “اللعبة” الذي عرض قبل أيام على منصة شاهد وقام بكتابته فادي أبوالسعود وأحمد سعد والي. ويكمن أحد الأسباب المهمة التي تدفع المنصات إلى تفضيل الأعمال المكتوبة خصيصا لها في تجنب فكرة التعرّف المسبق على الأحداث، والتي لا تتحقّق في الروايات المنشورة.
ويتمثل الجانب المهم من إثارة الدهشة والمتعة لدى المشاهدين في المفاجأة التي تنطوي عليها أحداث العمل الذي يشاهدونه، وهي ضرورية في الأعمال البوليسية والمثيرة.
ولم يكن غريبا أن يتجه روائيون كبار لهم حضور في سوق النشر ولهم جمهورهم الواسع إلى ممارسة تجربة الكتابة المباشرة للشاشات، وهو توجّه سبق أن قاده السيناريست والروائي أحمد مراد، عندما كتب سيناريو فيلم “الأصليين” قبل سنوات دون أن يقدّمه كعمل روائي.
وقال أحمد مراد لـ”العرب” إن “الكتابة مباشرة للمنصات الرقمية تمثل في الوقت الحاضر اختيارا مقبولا لدى الكثير من المبدعين، ولدى منصة نتفليكس وغيرها من المنصات إحصائيات دقيقة يمكن من خلالها التعرّف على تطوّر وتغيّر أذواق الناس من وقت إلى آخر ومن مكان إلى مكان”.
ويحقّق وضع كل منصة لاشتراطات خاصة للنص المقبول ولإجراءات العرض عليها معالم استرشاد لكتاب السرد للتوافق مع اتجاهات الجمهور في مختلف بلدان العالم.
وأوضح مراد أن الفن يحقّق خلودا للكاتب، والمنصات بشكل خاص تسهم في انطلاق الكاتب إلى العالمية وتجاوزه حدود اللغة والجنسيات والأعراق، ما يمثل إغراء ودافعا قويا يجعله يُفكّر بشكل مختلف في أمور عديدة ربما لم تخطر على باله من قبل. وقال “من المنطقي أن يتحوّل الكثير من الروائيين للتوافق مع اشتراطات المنصات، ويلجأوا إلى الكتابة مباشرة للشاشات”.
تغيرات لافتة
حمل عصر التكنولوجيا الرقمية المتطوّرة بذور التغيير في الكثير من فنون الإبداع في العالم، لكن فن السرد بشكل خاص كان أكثر تأثّرا في العالم بتطوّر المنصات الرقمية على وجه التحديد، وهناك من يتصوّر أن يمتد التأثير المنتظر لتلك المنصات إلى كافة أنواع الكتابة، وألاّ يقتصر الأمر على فن الرواية وحده، وغيّرت المنصات الرقمية الكثير من أفكار الناس ورؤاهم الفكرية والمعرفية وربما عاداتهم الحياتية أيضا.
وكشف الروائي المصري هشام الخشن -الذي اتفق مؤخرا على تحويل روايته “شلة ليبون” إلى مسلسل يتم عرضه على إحدى المنصات الرقمية- أن الانبهار الذي حدث لدى احتكاك الجمهور بأعمال فنية وقصص من كافة دول العالم أسهم في توسيع مدارك المتابعين وجعلهم أكثر تقبلا لأفكار غير معتادة.
وأوضح لـ”العرب” أن مراحل التطوّر الإبداعي والفني “علمتنا أن الجمهور يستغرب في البداية ما لم يعتد عليه، ثُم يبدأ بعد ذلك في التأقلم معه رويدا رويدا، ويستوعب الجديد ليصبح جزءا من فلكلوره الشعبي، وهكذا تتغيّر أنماط الإبداع كل فترة”.
على الجانب الآخر هناك من يتصوّر أن الفوارق بين فن الكتابة الروائية وفن السيناريو ستبقى قائمة، وأي نص أدبي متميز هو بالضرورة مناسب للمنصات الرقمية، ويستدل على ذلك بعودة المنصات الرقمية إلى أعمال كبار الروائيين العرب لتقديم مسلسلات جديدة.
ولفت الناقد علي حامد إلى أن كافة المنصات ما زالت رغم مرور سنوات طويلة على رحيل نجيب محفوظ تتسابق لتحويل بعض رواياته وقصصه إلى دراما جديدة، وقال “صحيح من الأسهل استقبال أعمال سيناريو نهائية قابلة للتنفيذ الفوري، لكن مجرد تداول أسماء روائيين كبار لديها يبقيها محل استثناء”.
وتتضمن خارطة الدراما للمنصات الرقمية في رمضان المقبل مسلسلا بعنوان “الملك”، وهو مأخوذ عن رواية “كفاح طيبة” لنجيب محفوظ، وكتب له السيناريو الإخوة محمد وخالد وشيرين دياب، ومن إخراج حسن المنباوي، ومسلسل آخر مأخوذ عن رواية الأديب إحسان عبدالقدوس بعنوان “حتى لا يطير الدخان”، وقد كتبه محمد العدل ويخرجه ماندو العدل.