مغالاة وسائل الإعلام في العداء تربك تغطيتها للتقارب المصري – التركي

وجدت وسائل إعلام مصرية نفسها في مأزق نتيجة التغيرات الحاصلة في المشهد السياسي بين القاهرة وأنقرة، والانتقال من الهجوم الحاد إلى التهدئة ومباركة المصالحة، بينما يقول خبراء إعلام إن من الطبيعي أن تتأثر الأدوات الإعلامية بالمواقف الوطنية وهو أمر لا يسيء إلى صورتها.
القاهرة - لم تصل غالبية وسائل الإعلام المصرية إلى مستوى من الاستقلالية يمكنها من ممارسة دورها بالحرية الكافية والموضوعية اللازمة بعيدا عن الخطوط السياسية الرسمية، فوجدت نفسها في مأزق بعد أن لاحت مؤشرات تقارب بين مصر وتركيا.
وقد تحرت وسائل الإعلام في البلدين بوصلة التقارب في إطار التوجه العام نحو تطبيع العلاقات بينهما، بما انعكس على التغير الملحوظ في السياسة التحريرية وانتقالها من توجيه الانتقادات اللاذعة إلى الهدوء.
وحاولت بعض الوسائل التي سلكت طريق الاحتراف والرصانة مواكبة تلك التغيرات بسلاسة، في حين وجدت وسائل إعلام أخرى درجت على المغالاة في النقد أو المديح نفسها في ورطة دفعتها للصمت التام، ما يؤثر على مصداقيتها.
وما حدث هو أن السياسات التحريرية لتلك الوسائل تماهت وباتت تمثل خطا واحدا، مع الاختلاف في حدة ورصانة المعالجة.
ووجد البعض من المذيعين أنفسهم في مأزق حاد نتيجة التغيرات الحاصلة في المشهد السياسي بين القاهرة وأنقرة، فالإعلامي المصري أحمد موسى الذي درج على كيل الهجوم والسباب أحيانا لكل من تركيا وقطر اللتين تأويان جماعة الإخوان المسلمين، المصنفة إرهابية في مصر، اضطر إلى مواكبة التغيرات الأخيرة.
وتقلصت مساحة التعرض لتركيا وقطر في برنامج موسى “على مسؤوليتي” على قناة “صدى البلد”، وأصبح التناول أكثر رصانة، حيث يتناول الخبر ويشرحه للمشاهدين دون مغالاة في التعليق، ما جعله يبدو مهتزا وعلى غير عادته الجريئة، أو هكذا ترك انطباعا لدى مشاهديه الذين اعتادوا منه تلقي رسائل مكثفة في اتجاه معين.
ولم يكن الإعلام المصري وحده يسير في المغالاة أو الانتقاد الذي يقفز على حدود المهنية أحيانا، بل كان يعد رد فعل على سلاح أزعجت به تركيا وقطر النظام المصري على مدار سنوات، ولهذا كان من المنطقي أن يعد تقويض الأبواق الإعلامية لجماعة الإخوان التي تبث من تركيا أولى خطوات تلطيف الأجواء بين الدولتين.
ونفى أستاذ الصحافة في كلية الإعلام جامعة القاهرة، محمود علم الدين، أن تكون الوسائل الإعلامية دخلت في مأزق من خلال تحويل رسائلها أو إجراء تغيرات على سياستها التحريرية لتتوافق مع التغيرات على الأرض.
وأوضح لـ”العرب” أن المتلقي يملك وعيا ويعلم جيدا أن العلاقات الدولية لا تتسم بالثبات، وأنها دائمة التأرجح بين موجات من الاتفاق والاختلاف، والعنف أحيانا في الاختلاف، أو الود الشديد وهكذا، لذلك فتعبير وسائل الإعلام داخل الدولة عن موقفها تجاه البعض لا يمت بصلة للمصداقية ولا يمكن أن يؤثر على صورتها لدى الجماهير.
وأشار إلى أن حديث المصداقية وعلاقتها بالسياسة “كلام تجاوزه الزمن، فالواقع أقوى من السياسات التحريرية، وهناك أمور تمثل قضايا قومية لا يجوز معها الحياد”.
ويرى خبراء إعلام أن من الضروري إجراء تغيرات تدريجية وليست فجائية فجة، فعادة ما توجد فترة تصمت فيها وسائل الإعلام، تكون بمثابة جس نبض أو ترقب لما ستسفر عنه التحولات على الأرض، ثم التعبير عن التغيرات الجديدة، والتعامل على هذا النحو يجعل الوسائل الإعلامية تجتاز الموقف بطريقة احترافية.
واتبعت وسائل إعلام عدة، حتى أكثرها حدة في الرسائل وأقربها لمؤسسات الدولة تلك الطريقة، بما مكنها من الوقوع في بعض المطبات الإعلامية التي يمكن أن ترخي بظلال قاتمة على مصداقيتها لدى الجمهور الذي يتابعها.

وتعد جريدة “اليوم السابع” المصرية مرآة لتوجهات الدولة، فقبل فترة الصمت أو التجاهل أو التوقف عن التناول السلبي لأنقرة والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان موقع الجريدة على الإنترنت ينشر يوميا متوسط أربع مواد بين خبرية وتحليلية وتقارير حول تركيا، تتضمن كلها انتقادات قاسية، فسرها مراقبون على أنها رد فعل على ما تبثه وسائل الإعلام القريبة من النظام التركي، والوسائل التابعة للإخوان.
وتنوعت المعالجات بين الفشل الاقتصادي بالتضخم والبطالة وانهيار الليرة، وتردي أوضاع حقوق الإنسان في تركيا، وموضوعات تنسب التدهور والأزمات مباشرة إلى أردوغان، علاوة على رصد لحالات قمع المعارضة والأكراد.
وتوقفت تلك المعالجات في منتصف مارس تقريبا، وبحلول منتصف أبريل بدأ التغير في المعالجة يتضح أكثر، عبر فرض مساحات أكبر للمصالحة والتصريحات الإيجابية المتعلقة بها، وموضوعات إيجابية عن مصر نقلا عن مواقع تركية، وهو ما يعكس بدء التطبيع الإعلامي بين الدولتين.
ولم تختلف وسائل الإعلام التركية في ذلك، بل كان تحولها الأبرز، وهو ما يتسق مع كون رسائلها كانت الأكثر تأثيرا وحدة، فبجانب وقف برامج الإخوان السياسية، طال التحول وسائل الإعلام التركية الرسمية، في مقدمتها وكالة أنباء الأناضول التي اعتادت بث مواد يوميا مليئة بالانتقادات للأوضاع في مصر، وبعد مؤشرات التقارب تراجعت هذه النوعية من المواد الإعلامية القاتمة.
والملاحظ أن التحول الإعلامي لدى تركيا بدأ قبل القاهرة، حيث بدأت منذ سبتمبر العام الماضي، إرسال إشارات إيجابية متقطعة عبر تصريحات إعلامية لمسؤولين أتراك عن قرب الشعب المصري من التركي والرغبة في تحسين العلاقات، الأمر الذي مهد للمرحلة التالية، ولذلك لعب الإعلام دورا في الحالتين، السلبية والإيجابية.
ورصد المراقبون ما تبثه وكالة الأناضول، وبدت أكثر حيادية وموضوعية في التعامل مع القاهرة وملفاتها، وفي مقدمتها ملف سد النهضة، فضلا عن تناول أخبار الأحكام التي تصدر في حق عناصر جماعة الإخوان باقتضاب على خلاف ما كان يحدث سابقا.
ولا يزال طريق التحولات الإعلامية في بدايته، كما هو الوضع في المصالحة أو تطبيع العلاقات، ما يضع وسائل الإعلام في البلدين في اختبار قاس، خاصة إذا لم تكتمل مصفوفة المصالحة السياسية، ما يعني العودة إلى المربع الأول من التراشقات.