مع اقتراب عام 2025 العالم بحاجة إلى "طوفان فكري"

للأسف، لا يزال هذا العالم مريضا بالـ“أنا” والاستعراض والماديات وتوافه الأمور، يعيش بأنانية متطرفة داخل عقله غير آبه بما يحدث للبشر من حوله. بالرغم من كل التشظي الواقع أمامه في غزة والضفة ولبنان وسوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا، والمآسي تتعاظم، إلا أن هذا العالم مستمر في الضياع في سراديب محاولاته للبحث عن قيمته وحقيقته في أسخف المواقع. يتراءى لي أحيانا أننا نعيش في مسرحية هزلية، وهذا العالم أتقن صناعة فن التفاهة حتى أصبحت جزءا من كينونة كثيرين.
لكن، ألا يمل؟ ألا يتعب؟ ألا يعي بأننا نعيش في واحدة من أسوأ الحقب الزمنية إنسانيا وأخلاقيا وقيميا وفكريا؟ هل على المجتمعات أن تستمر في السير بشكل مترنح بوجوه مشوهة ومشوشة؟ ثم، أي قاع على الإنسان أن يُزج به حتى يستيقظ ليختار طريقا مغايرا من أجل واقع يحترم وجوده؟ هذا العالم بحاجة إلى كل فرد بأن يكون في مكانه الصحيح بحجمه الحقيقي والمناسب، من أجل بناء واقع أفضل بعيدا عن أي استعراضات هشة ومسرحيات ساخرة. ربما نحن بحاجة إلى “طوفان فكري”، بحاجة إلى بشر بفكر واع متوازن وحكيم، يتمتعون بأخلاقيات وقيم رفيعة، بحاجة إلى عصف ذهني قيمي أخلاقي حضاري جماعي لوقف هذه الفوضى الخلّاقة، قدر الإمكان.
◄ نحن نعيد كتابة التاريخ في مناطق كثيرة من هذا العالم بشكل مخيف ولنا كل الحق والشجاعة في رسم طريق مختلف وواقع أفضل يحترم إنسانية الإنسان ووجوده لنوقف الألم والقهر والاستبداد
نحن على خطوات قليلة من 2025، حيث من المفترض أننا نتحدث عن الذكاء الاصطناعي والتطور في الأدوات من طيارات وقطارات وصواريخ وأسلحة، نتحدث عن أحدث الأجهزة الإلكترونية. أصبحنا على شفا خطوات من تحويل الأفراد إلى روبوتات، ومن المفترض هذا زمن الاتصال والتواصل السريع، وفي ظل كل هذا نشهد كوارث إنسانية وكأننا ما زلنا في زمن تتم فيه التضحية بالإنسان كقربان للآلهة.
نحن على بُعد خطوات قليلة من 2025، نعيش في عالم كان من المفترض أن يكون متطورا حضاريا، لكن المجاعات تتمدد، والخيم باقية وتتكاثر، والمياه ملوثة، والفجوات المعيشية بين البشر بازدياد، الجهل متفش والأمراض الجسدية والنفسية والعقلية باتت كطاعون ينهش بالأفراد. 2025، حيث الدول المنهارة المتداعية في تزايد.
الإنسان يجب أن يكون على قيد مراجعة لأخلاقياته وقيمه وقوانينه ودساتيره، أن يتحدث عن العلم لا عن الخرافات والأوهام، أن يتحدث عن الحب لا عن الرعب والكراهية والإقصاء. أن يبني هيكلية تعليمية قوية لا أن يدمر المدارس والجامعات، أن تتعاضد المجتمعات لا أن تنهش بعضها باختلافات طائفية، دينية، مذهبية، فكرية، حزبية. البشرية على شفا خطوات من البدء في كتابة قوانين ودساتير لعالم جديد، وتشكيل واقع حديث، لذلك، إما أن تقرر البشرية إيجاد مخرج من هذا النفق المظلم أو أن تبقى أسيرة حلقة ملعونة، وحينها سيطال الظلام مناطق أوسع وبشرا أكثر.
المقصد، إن صمت العالم في عام 1945 على إلقاء قنبلة ذرية على هيروشيما وناكازاكي، وصمت العالم على مقتل الملايين في حروب عالمية، ثم صمت العالم على احتلال أميركي للشرق الأوسط وأبعد، واحتلال إيراني لدول عربية وأكثر، واحتلال روسي لمقاطعات “كانت” ضمن الاتحاد السوفييتي المُنهار، صمت العالم على ما يحدث اليوم في غزة، الضفة، لبنان والعراق وسوريا، والأمثلة أكثر وأكثر. هذا كله يعد موافقة ضمنية صامتة على كل الظلم المستشري في العالم وقبول صامت لامتداد الفوضى في كل مكان وأي زمان، وعلى أن تكون الكلمة الأقوى في التعامل البشري للاستبداد والبلطجة بدلا من الحضارة والحوار والاحترام.
إن ما يحدث يجب أن يجعل كل إنسان يختلي بنفسه ويراجع برمجته، ما يؤمن به، أفكاره، إنسانيته ومبادئه في معاملاته وتعاملاته مع نفسه ومحيطه الصغير. من غير الطبيعي أن يكون الفرد محلقا في الفراغ وفي فلك السفاهة في ظل الفوضى التي نشهدها اليوم. أن تُبث برامج تافهة سفيهة في ظل المعاناة المستمرة من حوله، ويستمر الإنسان بكونه مستهلكا يروج لبضائع على مدار الساعة ويروج نفسه كبضاعة، لحيتان الشركات التي تدعم تعزيز واقعه القاتم. من غير المعقول أن يكون الإنسان ما زال يسبح في فُلك “الفلاتر” واستعراضات “الإنستغرام” والماديات الهشة وتضخيم الذات الوهمية والمشتتات، بينما العالم يغرق في وحل المعاناة أمامه.
◄ نحن على بُعد خطوات قليلة من 2025، نعيش في عالم كان من المفترض أن يكون متطورا حضاريا، لكن المجاعات تتمدد، والخيم باقية وتتكاثر، والمياه ملوثة، والفجوات المعيشية بين البشر بازدياد
ربما سيقول لي البعض إن البشرية لطالما كانت غارقة في وحل حروبها، فماذا أتوقع؟ إعلان حداد عالمي؟ أن تتوقف الحياة البشرية تماما لأن هناك دولا منهارة وبضعة ملايين لُعنت بالموت والحرب والفقر والبطالة؟ نعم، كان من الممكن أن يكون هناك عام حداد على إنسانيتنا مثلا، تماما كما توقف العالم عام 2020 بسبب وباء كورونا. كان من الممكن إعلان وباء أخلاقي عالمي ليتم إرغام المجتمعات البشرية على محاسبة ذاتها، فكرها، إيمانها، عقائدها، بدلا من التعود على سماء مزينة بالصواريخ وواقع ممتلئ بالدماء والأشلاء. بدلا من الاستمرار في محاولة إنكار الواقع، كان من الضروري للجميع أن يواجه الواقع.
لعقود طويلة والجميع يحاول تجنب رؤية الفيل في زاوية الغرفة حتى انفجر الفيل في وجه الجميع. طوال العقود الطويلة الماضية، عاش البشر على وهم وطنية هشة، وشرذمة أخلاقية غير حقيقية، لذلك وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها في الجحيم. في النهاية، أي واقع يريد الإنسان أن يعززه وأي مستقبل يحاول أن يورثه للأجيال القادمة؟ دول لا سيادة لها ومُستباحة من القريب والبعيد؟ المزيد من القهر والاستبداد؟ المزيد من المشتتات؟ المزيد من الأفراد النائمين الجاهلين غير الواعين لقدرهم وحقيقتهم؟ إن البشرية بحاجة ماسة إلى وجوه حقيقية أكثر، وإلى كلمات صادقة، إلى عقول فذة ممتلئة بالحكمة والمعرفة، لأن البشرية تحتاج إلى من ينتشلها من جحيمها. المجتمعات تحتاج أن تستمع لحوار العقول، للحكمة، وليس لنشاز طائش أبله.
كان على المرء أن يحترم ذكاء العالم الذي انطوى به ومنحه فرصة ليكون كائنا بعقل واع متطور. واليوم المجتمعات تفتقر إلى عصف ذهني بشري جمعي، إلى حوار بين الحضارات، لتنقيح الأفكار ورفض المسلمات، وإعادة صياغة الكثير من المفردات من الدولة إلى الوطنية والمواطنة والإنسانية والحريات والديمقراطية، إلى العدالة والحقوق، وغيرها الكثير من المفردات التي أنتجتها البشرية يوما، وتمخضت عن تجربتها السابقة.
أعي وأؤكد، نحن نعيد كتابة التاريخ في الكثير من مناطق هذا العالم بشكل مخيف، ولنا كل الحق والشجاعة في رسم طريق مختلف وواقع أفضل، يحترم إنسانية الإنسان ووجوده، أن نوقف الألم والقهر والاستبداد، أن نمنح الجميع الحق في حياة أفضل، أن يبدأ الإنسان بالنظر للمرآة ليرى حقيقته وحقيقة الآخر ويقرر مصيره. فأي طريق يريد أن يسلك؟ أن يبحث عن مخرج، أم يستمر في تكرار مزر وساخر لسيناريو رث بال؟