معلقات الفنان اللبناني شوقي يوسف أكفان من الزمن الآتي

تشكيل معاصر يبحث في معان فلسفية لتدخل التكنولوجي في الإنساني.
الجمعة 2023/06/09
عملية جراحية فنية

تشغل العلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، بين ما هو إنساني وبين كل محاولات تشييئه المأساوية، الفنان اللبناني شوقي يوسف الذي خصص معرضه التشكيلي الأخير لرصد التحولات العميقة التي هزت مفهوم الحياة الإنسانية بكل ما تتضمنه من اهتمام بالحقوق والمشاعر والعلاقات الإنسانية.

الإقرار الاحتفالي بالأمر الواقع مقرونا بتسلخاته الأثيرية والمادية على السواء يكاد يكون ليس فقط هاجسا في معرض الفنان اللبناني شوقي يوسف الذي انتظم في صالة “صالح بركات الفنية” بل هو عنوان للعيش في عالم على حافة التحولات العميقة لمفهوم الحياة والحقوق الإنسانية وأساسيتها في كل المرافق المعيشية.

معرض الفنان شوقي يوسف الذي أقفل بابه منذ بضعة أيام يضم أعمالا كثيرة بأحجام مختلفة ومشغولة بمواد مختلفة لاسيما الأكريليك.

لدى الدخول إلى القاعة السفلية من صالة “صالح بركات” تبادرك سلسلة من اللوحات مُعلقة على الجدران الواسعة والعالية لتكون جزءا من مشهد شامل يضاعف مما يعني أن تكون الأعمال الفنية هذه ليس فقط لوحات، بل معلقات/شواهد على زمن يعرض عينات متعددة من أكفانه/نسيجه العضوي الملون كنوع من الرثاء لحالة عامة.

عرض احتفالي فيه الكثير من القبول بما جرت إليه أمور البشر وأحوالهم، وذلك إن كان من ناحية موت الخصوصية وضرورة استعراض البيانات العلمية/التعبيرية التي يتألف منها جسد/وجدان الإنسان المعاصر حتى يكون منسجما مع السياق المعاصر للحياة التي بات قوامها ضرورة مشاركة الآخرين أتفه الأمور التي تحدث لهم، قبل مشاركتهم لأهمها.

عودة الإنسان إلى بشريته الفانية
عودة الإنسان إلى بشريته الفانية

آخرون هم معظمهم في هذه المعادلة لا يهتمون بما تخبره عن ذاتك وتفاصيل حياتك بقدر ما يهمهم فعل المشاركة التي لا تلبث أن تختفي وتتحلل تحت وطأة الملايين من المشاركات الأخرى تماما كما يحدث الأمر على كل صفحات التواصل الاجتماعي.

ربما لأجل ذلك، في زيارة إلى المعرض، يرفض الفنان استخدام تعبير “أعمال تجريدية” وهو، إن تمعنا في قوله هذا يحمل الكثير من الصدق، لا بل يخرج نصه الفني من التجريد إلى تشكيل معاصر يعنى بالتمحيص فيما يتكون منه جسد الإنسان على المستوى الضيق وروح العالم المعاصر على المستوى الواسع.

ما يقدمه الفنان من خلال كل أعماله على اختلافها وبعدها عن التكرار هو التسلخ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى حسي/روحي على السواء.

ما يصوره شوقي يوسف هو انحسار الإنسان، وتعاظم البشري ومن ثم قابلية خنوعه تحت سلطة ما جرى على تسميته بـ”الذكاء الاصطناعي” وآلياته وتداخلاته المختلفة في شتى شؤون البشر حتى تلك التي اكتنزت لملايين من السنين معاني فلسفية وأخلاقية ووجودية و روحية.

وكأن أمام هذا الفرح العارم والساذج بالتقدم التكنولوجي يرفع الفنان شوقي يوسف معلقاته على جدران الصالة، كما يعلق هندي أحمر أو مواطن “رجعي” في بقعة من بقاع الجغرافيا القديمة المنتشرة في نواحي الأرض، جلود الحيوانات المشدودة بخيوط عضوية إلى جانب تعليقه لأجزاء من أعضائها الداخلية والخارجية على قماش خيمته.

وفي هذا السياق يجدر ذكر ما قاله الفنان في تقديم معرض سابق له هو من دون شك تمهيد إلى ما وصل إليه نصه الآن “استخدمت في الأعمال الشفرة والسكين إضافة إلى استخدام الريشة. أما اللون الذي أضيفه في هذه الأعمال، فهو نوع من التجريح الذي أسعى إلى تظهيره وجعله مرئيا أكثر من كونه لونا استخدمه لذاته. كما استخدمت اللون الأكريليكي المخفّف كثيرا بالماء ليكون مضادا لقسوة التجريح والقطع بالشفرة والسكين، ويبقى التجريب واللعب طاغيين في أعمالي”.

أعمال مجهرية
أعمال مجهرية 

من ناحية أخرى يمكن وبكل سهولة اعتبار لوحات الفنان الحاضرة في الصالة ليست تجريدية إن نظرنا إليها على أنها ضرب من ضروب تكبير المشهد العضوي لنسيج الجلد البشري وباقي ما تتضمنه أو مصنوعة منه الأعضاء البشرية.

أعمال مجهرية بامتياز تظهر النفاذ إلى داخل التشكيل المباشر نحو تشكيل أبعد معني بما يحمل الجسد من إشارات لونية هشة بطبيعتها وخطوط دقيقة تتداخل في بعضها بعضا لتكوّن بقعا تتفشى تفشّي الدماء على الخرق الكتانية. تختصر لوحات الفنان الجسد ولا تغيبه. تختصره اختصارا مأساويا.

الفنان بذلك رد الإنسان، وكما ذكرنا آنفا، إلى بشريته الفانية. والفناء تجلّى في لوحاته الحاضرة أكثر من ظهوره في لوحاته السابقة كتلك التي رسم فيها شخوصا مستلقية تتحلل وتذوب معالمها على الطاولات.

ومن اللوحات التي يمكن اعتباره مثالا دقيقا على المجهرية تلك التي لها وجهان والتي عمد الفنان شوقي يوسف إلى وضعها داخل إطارات زجاجية تحفظها من الفساد وتضغطها فتجعلها شبيهة بالعينات المخبرية الموضوعة تحت المجهر وباستطاعة زائر المعرض أن يعاينها من الجهتين بشفافيتها.

إشارات لونية هشة
إشارات لونية هشة

وقد ذكر الفنان خلال إحدى المقابلات “الورق الذي أستعمله يُعد سميكا في طبقاته، أرسم على سطحه باستعمال شفرة الورق، ثمّ أضيف اللون المخفف مع المياه، وبالتالي يتفكك الورق، فأبدأ بتقشير سطحه واكتشاف طبقاته. تلقائيّاً، عندما أقشر الورق، تختلف سمكاته، ويختلف تأثير اللون عليه، من سماكة إلى أخرى”.

واستطرد قائلا “وجها اللوحة، ليسا عبارة عن وجه منفذ قبل الآخر، عملت على قماش غير مؤسس، وتحاورت مع وجهي اللّوحة في نفس الوقت. أضيف اللّون على وجه اللّوحة، ثمّ أستدير لأرى تأثيره على الوجه الآخر، وهذه الوجوه، هي كناية عن عمل مستمر من التعمير والتهديم، فأصبحت اللّوحات تحمل هذين العنصرين الهشاشة والتكدّس”.

وكأن الفنان هنا يتحدث عن عملية جراحية لها أصولها، ولكنها لا تعترض حدوث الصدفة التي يجاريها الفنان ويضبط إيقاعها بخبرة فنية عالية. وإن كانت العديد من لوحاته السابقة لاسيما تلك التي غلبتها التجريدية تشبه أكفانا بيضاء شفافة تتالى من تحتها طبقات تشبه الأنسجة العضوية (النباتية والحيوانية على السواء) فهي اليوم أكفان تفاعلت مع الأجساد حتى أصبحت هي جلدها وكل ما ينطق عن مسار جراحها، عيشها وموتها.

يُذكر أن الفنان شوقي يوسف ولد قبل ثلاث سنوات من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في بيروت سنة 1973، دمغ عيشه في مدينة النار والدخان بمبدأ التقوقع على الذات ليس هربا أو خوفا، بقدر ما هو تشكيل لنواة فلسفية ترى الحمرة في الجسد والروح، كما تراها في الحياة واللذة، والموت والفناء ضمن عجينة عضوية واحدة غذّت نصه الفني ولا تزال حتى الآن.

تخرّج الفنان في الجامعة اللبنانية في بيروت عام 1994، ليظهر ميله الشديد في عدد من المعارض الفردية والمشتركة داخل لبنان وخارجه إلى استخدام وسائل متنوعة وخامات متعدّدة بينها المواد التلوينية المختلفة لاسيما المائية والرسم، والفيديو، والأعمال التركيبية، شبه النحتية وغيرها.

14