معالم الحب ترقص فرحا مشبوها في لوحات التشكيلي خالد تكريتي

فنان يرسم الأمل والأفراح المتمردة على مصاعب العالم الواقعي وآلامه.
الجمعة 2022/12/02
شخوص من فرح

في فترة الحجر الصحي التي تزامنت مع انتشار جائحة كورونا، تقوقع الفنان التشكيلي السوري خالد تكريتي على نفسه، واختار التمرد على ألوانه ولوحاته، بحيث يرسم لوحات غير مترابطة الموضوع، لكنها تدور في مجملها حول الفرح المستتر والحب المتبادل، يعرضها لنا الآن في “هاشتاغ حب”.

تصبح عند بعض الفنانين ممارسة الفن كشعيرة عقائدية يُحافظ عليها بشكل يومي لأجل النجاة من الغرق في وحل العالم الخارجي من ناحية ومن صراعات العالم الداخلي من ناحية ثانية. التشكيلي السوري خالد تكريتي هو حتما واحد من هؤلاء، وهو فنان يقدم معرضا فرديا بشكل سنوي وفق قرار شخصي لم يحد سنة واحدة، ومنذ خمس وعشرين سنة، عن تلبية ندائه.

قدم الفنان التشكيلي السوري تكريتي معرضا تحت عنوان “هاشتاغ حب” في صالة عايدة شرفان البيروتية. وضم المعرض مجموعة أعمال مختلفة الأحجام مشغولة بمادة الأكريليك وبالألوان المائية. ويستمر المعرض حتى الخامس من ديسمبر الحالي.

اللوحات التي تستقي مواضيعها من الماضي السحيق، أي من الطفولة، رسمها الفنان بمادة الألوان المائية فبدت حقا "مائية"

لكل فنان مفتاح ذهبي يدور في الباب المفضي إلى نصه الفني وإلى ما يحتويه من مواضيع وإحالات عاطفية وفكرية. مفتاح تكريتي هو من دون شك طفولته السعيدة وسنوات شبابه الأول. لم يخرج معرضه الجديد عن هذا العالم الذي أتحفنا به منذ أن بدأ بالعرض الفني في التسعينات من القرن الماضي كما لم يتخلف عن إضافة بريق جديد لأعماله لأنه من الفنانين الذين يعتبرون أن التجريب في الفن هو عتبة الاستمرار والنجاح وإن كان ذلك من ضمن عالم واحد هو بالنسبة للفنان، وكما ذكرنا آنفا، طفولته وشبابه الأول.

مناسبة هذا المعرض هي خاصة وقد أفصح الفنان تكريتي عنها قائلا “لقد بدأت بالعمل على هذه اللوحات الموجودة في المعرض في فترة الحجر الصحي. كان بوسعي أن أرسم الألم  وظروف الوباء وما يمت إليه من تفاصيل كالقناع الواقي أو حالة الهلع التي عاشها البشر ووقف فيها الأطباء في ذهول وشجاعة أمام الموت المتهافت على أبواب المستشفيات، ولكنني لم أختر هذا الطريق، بل اخترت أن أرسم الأمل وأن أغوص في عوالم طفولتي السعيدة والأفراح التي يعيشها المرء خارج مصاعب العالم الواقعي وآلامه”.

وهكذا كان بالفعل في المعرض. فتتالت الأعمال الفنية التي كانت في البداية تدور في فلك النباتات والأزهار التي يعتني بها على شرفته وحديقته ليقدم معرضا افتراضيا احتوى على الخضرة والأزهار الناجية من رعب العالم. غير أن فترة الحجر طالت فما كان من الفنان السوري، وكعادته، إلا أن يختار موضوعا جديدا هو أيضا من ضمن تناول حلاوة عالم بعيد عن الحزن وهو ليس إلا اللحظات الفرحة التي اختبرها في الحياة.

ولأن هذا الموضوع لم يغب حقا عن إبداعه الفني منذ بداية انطلاقته الفنية، أدخل الفنان تحويرا في طريقة دخوله تشكيليا إلى هذا العالم. فكان منطق عمله الجديد أشبه بلعبة لعبها تكريتي مع ذاته طول فترة الحجر. منطق مبني على قانون أساسي: رسم كل يوم لوحة صغيرة. كل واحدة من هذه اللوحات منفصلة عن الأخرى ثم وضعها إلى جانب بعضها البعض في سلسلة من لوحات بدت وكأنها مشاهد مخطوفة من الذاكرة التي غزاها الخيال حتما لاسيما تلك التي هي النتف من ذكريات موغلة في القدم.

والناظر إلى تلك اللوحات سيجد استعادة شبه سينمائية مشكلة من لقطات أو لحظات من عمر واحد جمع بينها عنصر واحد وهو الحب. فبرزت لوحات مركبة تصور الحب الأخوي والصداقة ولوحة أخرى عن حب التلذذ بطعام شهي، ولوحة عن العشق بين الأحبة ولوحة عن عذوبة العائلة ولقاءاتها ولوحة تتحدث عن حب اللهو وهذه الأخيرة جسدت الألعاب الطفولية التي كان يحبها الفنان كركوب الأحصنة الخشبية.

اللوحة مساحة للسلام النفسي
اللوحة مساحة للسلام النفسي 

وفي المعرض هناك لوحات قائمة بحد ذاتها ولم يجمعها الفنان بلوحات أخرى وهي تتحدث أيضا عن الفرح الهش الذي رغم هشاشته حفر عميقا في روح الفنان وشاركه في إنتاج معظم لوحاته السابقة والحالية.

ويمكن القول إن هذا الاحتفال بهشاشة الفرح جاء من ضمن مناسبة رسم هذه اللوحات وهو حالة الفنان أثناء الحجر الصحي التي قوامها العيش كل يوم بيومه ومواجهة الشعور الخانق بالتهديد اليومي. ربما لأجل ذلك بدت لوحاته وكأنها “حجاب سحري” إذا صحّ التعبير ضد هول ما اختبره هو أولا وما اختبرته البشرية بأسرها.

ويحضر الشعور بالزمن الفجّ بطريقة أخرى غير كونه حاضرا في التقاط نتف من الذكريات التي تفصل بينها سنوات عديدة. يحضر تشكيليا. إذ أن اللوحات التي تستقي مواضيعها من الماضي السحيق، أي من الطفولة، رسمها الفنان بمادة الألوان المائية فبدت حقا “مائية”. ملامح الأشياء والوجوه، وإن استخدم فيها الفنان ألوانا فاقعة شبه فوسفورية، هي مائعة وهلامية في الآن ذاته ويخترقها ما يشبه رزاز كوني جعل منها وكأنها هيئات ذات ذرات واضحة غير أنها مفككة عن بعضها البعض. إنه الهش في أبهى حلله الوجودية.

كائنات تبحث عن التحرر من القيود
كائنات تبحث عن التحرر من القيود

مقابل هذه اللوحات نعثر على لوحة كبيرة شيدها الفنان تكريتي من مجموعة لوحات تجسد مشهد طاولة غداء تجتمع حولها العائلة الكبيرة. هذه اللوحة هي في منتهى الوضوح ومنتهى التجسّد وهي احتفال أقسى بحلاوة الماضي. ويبدو من الواضح لدى المُشاهد أنه بالرغم كون هذا المشهد من ماض بعيد إلا أنه شديد الوضوح. وأغلب الظن لأن هذه الجمعة العائلية كانت كثيرة جدا حدّ أنها رسخت في وجدان الفنان وعينه التشكيلية.

ويضعنا الفنان في مجمل لوحاته أمام مناخ من نسيج الذاكرة الشخصية التي لوحها خيال عاطفي. فهو لا يصور مشاهد من طفولته بقدر ما يجعل من طفولته مشاهد. مشاهد خاطفة تترك آثارا ملونة يحاول دوما ضمّها ومُساءلتها فإذ بها تفرّ فتذكرنا بالفارق الدرامي ما بين النجوم ومواقعها.

ولم يرسم تكريتي خلال مسيرته الفنية الفرح فقط وكانت له معارض تتحدث عن درامية الحرب وعن حزنه لفقدان جدته، ولكن معظم ما قدم يدور حول هذا الفرح الذي لم يقنعنا الفنان يوما بأنه صاف لا يعكره شيء.  وبالرغم من هذا الفرح الذي يجسده تكريتي في معرضه هذا، بأسلوبه المتأثر بالبوب آرت، بكل حواسه وخبرته الفنية لاسيما في الوجوه الضاحكة حتى تخوم الغرائبية، ثمة حزن يرشح من اللوحات. وهناك مرارة ما التحفت بالألوان الفرحة كما ترتسم الابتسامة على وجه حزين. إنه الحنين بالألوان الزاهية وهو الاحتفال بما رحل ليحل في الوجدان إلى الأبد.

ويذكر أن تكريتي مولود في بيروت واستقر في باريس بعد أن حصل على الجنسية الفرنسية. درس الحفر والتصوير والرسم الغرافيكي في جامعة دمشق، لكنه تفرغ للفن التشكيلي منذ سنة 1990.

15