مصر وعاصمتها.. القاهرة أم العاصمة الإدارية؟

القاهرة- حمل تنظيم احتفالية ليلة القدر في مصر داخل مركز المنارة للمؤتمرات، السبت، رسائل حاسمة من الرئيس عبدالفتاح السيسي بأن القاهرة ستظل مركزا للقوة والثقل السياسي وعاصمةً أبدية للدولة، وأن الانتقال للعاصمة الإدارية الجديدة لا يعني أن القاهرة سوف تكون بعيدة عن صناعة القرار أو مهمشة سياسيا.
وجاء اختيار هذا المقر لتنظيم حفل ليلة القدر كحدث ديني له رمزية بعد جدل واسع بدأ منذ تنصيب السيسي الثلاثاء الماضي رئيسا لفترة ثالثة من داخل مقر مجلس النواب في العاصمة الإدارية، وتعرض وقتها النظام لاتهامات بأنه يمهد لعدم استمرار القاهرة مقرا للحكم أو عاصمة للدولة.
واستثمرت جماعة الإخوان وإعلامها وأنصارها على الفضاء الإلكتروني صمت الحكومة وعدم ردها، لتأجيج الغضب وتكثيف جرعات التحريض حول انتهاء دور القاهرة التاريخية كعاصمة مع بدء الولاية الثالثة للسيسي في الحكم، وأوهموا البعض بأن الذين يعيشون في أحياء القاهرة سوف يصبحون من سكان الأقاليم.
وترى دوائر سياسية أن تجاهل الحكومة الغضب المرتبط بتغيير مقر الحكم وعاصمة الدولة تسبب في منغصات، كان النظام المصري في غنى عنها لو كانت هناك حنكة في التعامل مع الأمر بخطاب رسمي يستهدف شرح الموقف، لكن الحكومة بدت كأنها عاجزة عن التصرف ولا تعرف بأيّ طريقة ترد أو تبرر موقفها.
◄ الدور المرسوم للعاصمة الإدارية أن تكون مقرا لصناعة القرارات في الجمهورية الجديدة، دون توضيح لموقع القاهرة
وأكد مصدر حكومي مطلع لـ”العرب” أن القاهرة كعاصمة سياسية لمصر مستمرة كما هي بنص الدستور والقانون، والعاصمة الإدارية الجديدة التي يتم انتقال الحكم إليها تدريجيا سوف تكون مقرا لإدارة دولاب الدولة، وبدلا من أن يكون ذلك من وسط القاهرة ومحيطها المزدحم سيتم الانتقال إلى شرق القاهرة.
وأوضح المصدر أن هناك تصورا سيخرج للنور قريبا لتطوير هوية الحكم المحلي في العاصمة الإدارية بعد انتقال مؤسسات الدولة إليها، بحيث لا تكون مجرد حي تابع للقاهرة، وتضم أكثر من 25 حيا سكنيا، والأقرب إلى التنفيذ هو تحولها إلى إقليم، تحت مظلته أحياء العاصمة.
ويتلاقى هذا الطرح مع موافقة مجلس الوزراء المصري قبل عامين على مشروع قرار كان أصدره الرئيس السيسي بتعديل الحدود الشرقية لمحافظة القاهرة، لتضمّ مساحات أراضي وأحياء العاصمة الإدارية وامتدادها، بحيث تظل تابعة جغرافيا للقاهرة، وتقع ضمن نطاق العاصمة المصرية، بما لا يعرّض الحكومة لأزمة مخالفة الدستور.
ولم تعلّق الحكومة على تلميحات بعض المعارضين بأن وهج العاصمة التاريخية للبلاد سوف ينطفئ، وقد تسقط في براثن الإهمال مقابل الاهتمام بالعاصمة الإدارية التي تبعد عن القاهرة نحو ستين كيلومترا، مع أن هناك مشروعات تنموية ضخمة يجري تنفيذها منذ سنوات وحتى الآن في القاهرة التاريخية لتطويرها والحفاظ عليها.
وتظل أزمة الحكومة في تعاملها باستخفاف مع القضايا التي تثير ضدها منغّصات سياسية، رغم امتلاكها أدوات الدفاع عن نفسها، ما يظهرها قليلة الحيلة في مواجهة خصوم يجيدون استغلال الشائعات في تحقيق أغراضهم.
وأخفقت الحكومة إلى حد بعيد في تغيير صورة العاصمة الإدارية في أذهان بعض المواطنين، وتطغى عليها جوانب سلبية كان من المطلوب تصويبها قبيل انتقال الوزراء إليها رسميا، وإدارة مفاصل الدولة من خلال مقراتها.
وهناك حساسية مسبقة لدى بعض المصريين تجاه كل ما يرتبط بالعاصمة الإدارية، ما يفسر الجدل السياسي المتصاعد حول استخدامها مقرا للحكم بدلا من مؤسسات القاهرة التاريخية، حيث لا يزال يتم تحميل العاصمة الإدارية جزءا من مسؤولية الأزمة الاقتصادية وتبعاتها، من تضخم وشح في العملات الأجنبية وزيادة في الديون.
واستثمر معارضون التحفظ الاقتصادي ضد العاصمة لتأليب الناس على النظام بعد أداء الرئيس السيسي اليمين من مقر البرلمان الجديد، وجرى عقد مقارنات لديون مصر قبل إنشاء العاصمة الإدارية وبعدها.
ولا يعني اكتمال نقل هيئات الدولة ومؤسساتها إلى العاصمة الإدارية أن أركان الحكم في الجمهورية الجديدة اكتملت، فهناك انخفاض في التأييد الشعبي المرتبط بنقل مقار الحكم، وهذه أزمة ناجمة عن تسويق العاصمة بطريقة خاطئة، واختزال أهميتها في أكبر مسجد وأكبر كنيسة وأكبر مقر سكني، وتجاهل قيمتها الاقتصادية والأمنية والسياسية في المستقبل.
وقال محمد سامي الرئيس الشرفي لحزب تيار الكرامة المعارض لـ”العرب” إن الحكومة لم تستطع إظهار إيجابيات العاصمة الإدارية من حيث النقلة الحداثية وتوظيف التكنولوجيا في تطوير دولاب العمل ومضاعفة الاستثمارات في المناطق المتاخمة للعاصمة وجلب عوائد للاقتصاد القومي، ومن الطبيعي أمام سلبية الترويج أن تكون هناك ممانعات لفكرة نقل الحكم إلى مكان عليه تحفظات.
وأكد أن الثقل التاريخي للقاهرة يصعب أن تنافسه مدينة جديدة بكل إمكانياتها، وهذا يفترض أن تقوله الحكومة للناس، ومهما كانت القاهرة مزدحمة وبها بيروقراطية إدارية، لكنها أساس التاريخ والثقل الثقافي والسياسي، والحشد المتعمد والمفتعل أحيانا للعاصمة الإدارية أثّر على صورتها في نظر الناس، وجعلهم البعض يشعرون بغيرة أكبر على القاهرة، مع أن الحكومة لديها مبررات مقنعة لنقل مقارها.
ويفتح وجود هيئات وأجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة في العاصمة الإدارية الباب لدوران عجلة الاستثمارات والمكاسب التنموية، لكن الشريحة الأكبر من المصريين لا تستوعب ذلك، ولا تعرف سبب الربط بين العاصمة الإدارية والجمهورية الجديدة التي يتم الترويج لها، باستثناء ضم مبان عملاقة تروّج لها وجوه فاقدة للمصداقية.
ومن المستبعد أن يتوقف السيسي عن استقبال زعماء الدول وقادتها في قصور القاهرة التاريخية، مثل قصر القبة، وقصر الاتحادية، رغم قيامه بعقد اجتماعات مع مسؤولين في القصر الرئاسي بالعاصمة الإدارية التي استضافت قمة السلام لبحث تطورات الحرب على غزة في نوفمبر الماضي.
والواضح أن الدور المرسوم للعاصمة الإدارية خلال الفترة المقبلة أن تكون مقرا لصناعة القرارات وقبلة السياسة في الجمهورية الجديدة، لكن بخطوات متدرجة وعلى فترات تتقارب أو تتباعد، وتتم وفق حسابات دقيقة، لمنع تحول الشائعات بشأن القاهرة التاريخية إلى حقائق على الأرض.