مصر تستميل الأطفال والمراهقين بمناهج للصحة الإنجابية

تتحرك الحكومة المصرية في اتجاه تربوي وثقافي يتناسب مع عقلية المراهقين والشباب لاستقطابهم بعيدا عن العائلات، فيما يتعلق بمسألة تحديد النسل، وذلك بعد أن صعب عليها اختراق العقول الجامدة لدى الكثير من الأسر التي مازالت تعتبر كثرة الإنجاب بابا للرزق وعزوة. كما تروج وزارة التربية والتعليم فكرة إدراج منهج يختص بتثقيف الطلاب وتوعيتهم بالإنجاب الصحي، والاكتفاء بعدد محدود من الأبناء.
القاهرة - أظهر اتجاه الحكومة المصرية إلى توسيع قاعدة المستهدفين بالصحة الإنجابية داخل المؤسسات التعليمية صعوبة في اختراق الجمود الفكري الذي يعتري بعض الأسر، ما تطلب توجيه دفة الاهتمام نحو الأطفال والمراهقين، في ظل رفض شريحة من الآباء والأمهات التماهي مع خطط خفض معدلات الإنجاب في البلاد.
وتتركز النقاشات المرتبطة بالصحة الإنجابية على استقطاب الأجيال الصاعدة، من سن الطفولة حتى المراهقة والشباب، ومحاولة تغذيتها بالأفكار الصحيحة حول الإنجاب والزواج، وهو ما أعلنته وزارة التعليم مؤخرا، من خلال زيادة عدد الصفوف الدراسية التي تقدم مناهج معنية بالأسرة بعد أن كانت مقتصرة على مرحلة تعليمية بعينها.
وتبحث الحكومة عن إقناع الأسر بكل وسيلة للتخلي عن فكرة “العزوة” وزيادة عدد الأبناء كمدخل للرزق والمكسب المادي، وتصطدم بتحفظ مجتمعي واسع، وباتت تخشى أن ينتقل هذا الجمود إلى الطلاب، وهم أرباب الأسر في المستقبل، لذلك تتحرك في اتجاه تربوي وثقافي يتناسب مع عقلية هؤلاء لاستقطابهم بعيدا عن العائلات.
وكانت فكرة إدراج الصحة الإنجابية في المناهج الدراسية من قبل محل مطالبة من دوائر حقوقية وبرلمانية، لكن بعض الجهات الرسمية رفضت ذلك لإبعاد المؤسسات التعليمية عن إقحام نفسها في خدمة توجهات سياسية واقتصادية واجتماعية، ومع إخفاق مسارات بديلة لتحقيق الهدف تقرر التوسع في الاعتماد على المناهج بشكل أكبر.
وروجت وزارة التربية والتعليم مؤخرا فكرةَ إدراج منهج يختص بتثقيف الطلاب وتوعيتهم بالإنجاب الصحي، عبر تعريفهم بأن السعادة ليست بكثرة الأبناء، بل بالاكتفاء بعدد محدود حسب الاستطاعة، وذلك ركن أساسي للحياة الأسرية المستقرة، وتكون لدى الأب والأم قدرات وإمكانيات جيدة لتربية أولادهما وتعليمهم وتلبية احتياجاتهم.
ولم تعد الحكومة ترغب في تنشئة أرباب أسر المستقبل داخل إطار عائلي يسوّق لمفاهيم خاطئة حول الإنجاب وما يترتب عليها من توريث أفكار قديمة يزرعها الآباء في الأبناء بحثّهم على زيادة النسل وتوظيف عبارة “الأرزاق على الخالق” توظيفا دينيا خاطئا، وتحريضهم ضد خطط الحكومة لتنظيم الأسرة ومطالبتهم باستمرار الإنجاب في حالة وجود إناث فقط إلى حين وصول “الابن الذكر” الذي يحمل اسم والده ويصون ممتلكاته.
وتدعم بعض الدوائر الرسمية فكرة تزويد المراهقين والشباب بمعلومات صحية حول الإنجاب ليكونوا أكثر تمردا على الواقع الذي يفرضه عليهم الآباء والأجداد، باعتبار أن زيادة المواليد غالبا ما تكون مفروضة على الأبناء، خاصة في البيئات الريفية والشعبية والمناطق التي تبالغ في التمسك بالعادات والتقاليد، ويبدو نفوذ الأسرة فيها مرتبطا بعدد الأولاد، والذكور تحديدا.
صحيح أن التعداد السكاني الأخير الذي صدر في مارس الماضي أظهر انخفاضا واضحا في معدلات المواليد في مصر، لكن الحكومة تبحث عن المزيد من خلال إقرار خطط متعددة المسارات، دينية وإعلامية وثقافية واجتماعية وتربوية، بحيث يستهدف كل مسار شريحة سكانية بعينها قد لا تصلح معها المسارات الأخرى.
ولأن الكثير من الأجيال الصاعدة معروف عنها التمرد شبه المطلق على ما يرتبط بفكرة الحلال والحرام وتدخل الدين في تحديد مسار الحياة، وجدت الحكومة أن السبيل الأمثل للتعاطي مع تلك الفئة لن يتحقق دون إقرار خطاب تربوي بسيط يراعي الثقافات المختلفة ويستميلها بعيدا عن ثقافة العائلة، وتوسعت في التعويل على المناهج التعليمية العصرية.
ويمثل ملف الزيادة السكانية أزمة معقدة بالنسبة إلى الحكومة، لأنها تلتهم النسبة الأكبر من معدلات التنمية، إذ يزيد عدد سكان مصر بنحو مليون طفل كل تسعة أشهر، وهو ما تراه السلطة خطرا يهدد العوائد التي يمكن أن تحققها الدولة من المشروعات التنموية، ودائما ما تكون مطالبة بتدبير احتياجات هؤلاء من الخدمات، بما يفوق قدرتها على تحمل الكلفة المادية.
ويعتقد متخصصون في العلاقات الاجتماعية بالقاهرة أن التوسع في الاعتماد على المؤسسات التعليمية لتثبيت مفهوم الصحة الإنجابية هو خطوة لا غنى عنها، لأن الأهم خلال الفترة المقبلة إقناع أجيال المستقبل بأنها أساس حل المشكلة بعيدا عن العادات والتقاليد التي كان لها زمانها، في حين أن المستقبل الآمن للأسرة يتطلب أفكارا وخططا تضمن تماسك كيان العائلة.
ويمكن لمناهج الصحة الإنجابية أن تغير مفاهيم الإنجاب عند أرباب الأسر أنفسهم، باعتبار أن الآباء والأمهات غالبا ما يتولون مهمة الشرح والمذاكرة لأبنائهم، وبالتالي سوف يطلعون على المناهج، بما يمهد لأن يقوم الأبناء بالحديث مع آبائهم حول العادات الخاطئة التي تحتاج إلى تغيير ومراجعة تتسق مع العصر، وبذلك سيصل المحتوى الدراسي إلى كل أفراد الأسرة بسهولة.
◙ إدراج الصحة الإنجابية بالمناهج الدراسية كان محل مطالبة من دوائر حقوقية وبرلمانية، لكن بعض الجهات رفضت ذلك
وأكد علاء الغندور، استشاري العلاقات الأسرية في القاهرة، أن توسيع دائرة الاعتماد على المناهج التعليمية لتكريس الصحة الإنجابية إجراء أكثر واقعية لإبعاد الجيل المعاصر عن أفكار ومعتقدات الماضي، ويجب استثمار تقبل الكثير من الأبناء لإنجاب أعداد قليلة في ظل الظروف المعيشية الصعبة، لكن هؤلاء بحاجة إلى خطاب توعوي يجعلهم أكثر شجاعة في مواجهة تدخلات الأهل.
وقال لـ”العرب” إن التركيز على الآباء والأجداد للإنجاب بطريقة صحية قد لا يكون مفيدا بالقدر الأمثل، في ظل ارتفاع معدلات الأمية الأسرية، وعدم وصول الخطاب التثقيفي إلى مناطق يفترض أنها الأكثر في الإنجاب، وهيمنة ثقافة الحلال والحرام على قرارات الكثير من الأسر، ومن ثم ستكون العوائد الأكبر طالما يتم التركيز على أرباب الأسر في المستقبل، ذكورا وإناثا.
وتصل معدلات الأمية في مصر إلى 40 في المئة من التركيبة السكانية، وهؤلاء لا يجيدون القراءة والكتابة ولا يعرفون شيئا تقريبا عن خطط الحكومة أو معدلات التنمية، وبالتالي مهما قدمت لهم الحكومة من برامج توعوية ودينية واجتماعية لن تحقق نجاحا في عملية مجابهة الزيادة السكانية، وأصبح الأمل منصبا على استمالة أبناء نفس الفئة بخطاب تربوي واضح.
ولفت الاستشاري الأسري إلى أن التثقيف المبكر للمراهقين والشباب بشأن الإنجاب وكيفية تكوين أسرة مستقرة بعدد أقل من الأبناء سوف يحول دون استقطابهم من العناصر التي ترهب المجتمع بفتاوى متشددة تحرم تنظيم الأسرة وخفض المواليد، حيث اعتادت التعويل على الأمية الأسرية في تسويق خطابها المناهض لتوجهات الحكومة حول ملف الزيادة السكانية.
وأصبح تحريم خفض الإنجاب جزءا من ثقافة شريحة كبيرة من الأسر، بينما يجد أصحاب الرؤى المتشددة الذين يعتمدون على التراث في خطابهم صعوبات بالغة في التأثير على الشريحة المتعلمة، ما يعزز أهمية وجود منهج تعليمي معاصر ينسف الأفكار القديمة حول الإنجاب، على المستويات الاجتماعية والدينية والاقتصادية، ليكون تعاطي الناس مع القضية في المستقبل عن فهم وليس عن جهل.