مصر تتعامل مع تنظيم الأسرة كمشروع استثماري

القاهرة - تتعامل الحكومة المصرية مع ملف تنظيم الأسرة برؤية اقتصادية تقوم على الربح والخسارة كمدخل للمزيد من خفض معدلات الإنجاب، من خلال حساب تكلفة الإنفاق العاجل على وسائل تنظيم الأسرة وما سوف يجلبه ذلك من مكاسب تنموية واجتماعية كبيرة لجميع الأطراف.
وخلصت دراسة صدرت مؤخرا عن وزارة التخطيط في مصر للوقوف على تحديات تنظيم الأسرة إلى أن هناك حاجة ملحة إلى تدبير المزيد من الموارد المالية اللازمة للإنفاق على ملف الزيادة السكانية، وتكون لدى الدولة حلول أكثر فاعلية من حيث تحديد تكلفة المواجهة ورصد العوائد الاقتصادية والاجتماعية.
وأقرت الدراسة بأن البلاد تواجه تحديا كبيرا في قدرتها على توفير الاحتياجات الضرورية لتنظيم الأسرة وخفض معدلات الخصوبة، لذلك من المهم حساب التكلفة والعائد، والفاعلية والمكاسب، وإيجاد حلول سريعة لإقناع شريحة كبيرة من النساء باستخدام وسائل منع الحمل.
واعترفت وزارة التخطيط بوجود معارضة من بعض الأزواج والعائلات لفكرة تناول السيدات لوسائل منع الحمل، ما يفرض المزيد من الجهود التي تساعد على نشر مفهوم تنظيم الأسرة والتغلب على التحديات المرتبطة بممانعة بعض الشركاء لهذا المسار.
وجاءت نتائج الدراسة بعد أيام قليلة على إعلان وزارة التخطيط أن مصر سجلت أقل معدل للنمو السكاني خلال خمسين عاما، إذ انخفض من 2.6 في المئة عام 2017 إلى 1.4 في المئة العام الماضي، وهي أرقام أغرت الحكومة وجعلتها تبحث عن تحقيق المزيد من المكاسب في ملف خفض الإنجاب.
ويشير التوجه نحو التعاطي مع مسألة تنظيم الأسرة بحساب ما سيتم إنفاقه مقابل العائد المتوقع إلى أن الحكومة غيّرت طريقة التعامل مع ملف الزيادة السكانية، وقررت النظر إليه كمشروع اقتصادي يستحق أن يُنفق عليه بلا تقشف.
وعوّلت الحكومة كثيرا على وعي الأسر لخفض معدلات الإنجاب من دون أن تخصص لهذا الملف احتياجات مالية ضخمة بحجة أن هناك قطاعات تستحق الإنفاق عليها بسخاء أولا، لكن الدراسة الأخيرة كشفت المكاسب غير المباشرة التي سوف تعود على الدولة من هذا المشروع.
وألمحت الدراسة إلى أنه حتى لو تم توفير كل وسائل تنظيم الأسرة على نفقة الدولة، فإن الزوجة قد تتعرض لممانعات من الزوج وربما العائلة، أي يمكن أن تُجبر على الإنجاب تحت ضغوط معينة وتسلك مسارا لا ترغب فيه، وهو ما حذرت منه وزارة التخطيط المصرية بالقول إن الخطة قد تؤدي إلى زيادة معدلات وفيات الأمهات.
وذلك على عكس القول إن تنظيم الأسرة يسهم في تحسين صحة الأم والطفل، ورفاهية الأسرة، ويقود إلى خفض معدلات وفيات الأمهات الناتجة عن الحمل غير المرغوب فيه، وهي إشكالية لم تستطع الحكومة إيجاد حلول جذرية لها طوال السنوات الماضية.
ولا تتوقف جهود التوعية بوسائل تنظيم الأسرة في مصر عبر وسائل الإعلام المختلفة وشبكات التواصل الاجتماعي والمؤسسات الدينية والمجتمع المدني، لكن معضلة كل هذه الأطراف، ومعها الحكومة، أن الخطاب التوعوي لا يزال يقتصر على السيدات دون إدراك أنهن بلا صلاحيات مطلقة.
وغاب عن المؤسسات المعنية بملف تنظيم الأسرة في مصر إدخال الرجل (الزوج) طرفا أصيلا في المعادلة بأن يتم استقطابه للاقتناع بوسائل منع الحمل، لكن جرى التركيز على الزوجات فقط من دون إدراك لخصوصية المجتمع وأن الرجل وعائلاته هم أصحاب القرار ولا يحق للمرأة التمرد.
والمشكلة تأتي من وجود عائلات في مناطق ريفية وشعبية وقبلية تعتبر كثرة الإنجاب دليلا على العزوة والفحولة، وهي ثقافة تحتاج من الحكومة إلى خطة توعوية متكاملة إذا أرادت نجاح مشروعها القومي المرتبط بخفض الإنجاب ووقف الانفجار السكاني، وبعيدا عن ذلك من الصعوبة أن تنجح مهما أنفقت الدولة من أموال.
ويرى متخصصون في العلاقات الأسرية والاجتماعية في القاهرة أن التوجه الحكومي نحو التعاطي مع ملف تنظيم الأسرة وفقا لحسابات اقتصادية خطوة تأخرت كثيرا، ومردودها الإيجابي لن يتحقق طالما يتم التركيز على إقناع الزوجة فقط.
◙ الحكومة غيّرت طريقة التعامل مع ملف الزيادة السكانية، وقررت النظر إليه كمشروع اقتصادي يستحق أن يُنفق عليه بلا تقشف
ويعتقد المتخصصون أن تحقيق الحكومة المصرية أرقاما إيجابية على مستوى خفض النمو السكاني مؤخرا أقنعها بقيمة التعامل مع تنظيم الأسرة كمشروع قومي قبل أن تجد نفسها متهمة بالفشل في تحقيق عوائد تنموية، مهما فعلت من إنجازات أمام الزيادة السكانية، لذلك لن تتعامل مع الملف بأيّ من مظاهر التقشف.
وأكدت دراسة لمركز البحوث الاقتصادية بالقاهرة أن كل جنيه تنفقه الحكومة على تنظيم الأسرة سوف يوفر لها مئة وخمسين جنيها في المستقبل، ودعت إلى التعامل مع خفض الإنجاب كمشروع استثماري لا يقل أهمية عن المشروعات القومية الكبرى التي تطلقها الحكومة في أنحاء مختلفة من البلاد.
وثمة مشكلة هيكلية تتمثل في العقلية الذكورية السائدة، فالرجل يصعب عليه أحيانا الاستجابة بسهولة لنداءات تنظيم الأسرة بذريعة أن الزوجة يمكن أن تتعرض للأذى وتصاب بضغوط نفسية وجسدية، مع أن معدل الوفيات بسبب الحمل غير المخطط له في ارتفاع مستمر.
وقال محمد هاني، استشاري العلاقات الأسرية في القاهرة، إن الحكومة اختارت المسار الصحيح عندما تحركت بدراسة علمية في ملف تنظيم الأسرة، لأن استجابة الأسر لخفض الإنجاب تتوقف على ما تطرحه الدولة من وسائل مجانية مقنعة.
وأضاف هاني في تصريح لـ“العرب” أن إستراتيجية التوسع في تنظيم الأسرة تحتاج إلى خطاب ذكي خاص موجه إلى الرجل، بحيث يلمس واقعه وأزماته وتحدياته ليكون مقتنعا بالفكرة، وخطاب آخر يوجه إلى العائلات التي تتدخل في ما يخص العلاقة بين الرجل وزوجته.
ولفت إلى أن أي بلد يعاني انفجارا سكانيا ويبحث عن خفض الإنجاب ينبغي عليه عدم التركيز على أرباب الأسر فقط، فمن المهم استمالة الأجيال الصاعدة التي تمثل أعمدة أساسية للبنيان الأسري مستقبلا قبل أن ينشأ هؤلاء على أفكار آبائهم الدينية والثقافية.
ومن الضروري أن تقتنع الحكومة المصرية بأن استجابة شريحة معتبرة لخفض الإنجاب ليس نابعة من اقتناعها بتنظيم الأسرة، بقدر ما يرتبط الأمر بظروف معيشية قاسية قادت نسبة كبيرة إلى اللجوء إلى هذا الخيار أمام شح الموارد، وإذا تعاطت مع الأمر كانتصار لخطتها التوعوية قد لا تحقق المزيد من المكاسب عندما تتعامل مع الملف كمشروع تنموي، ونزولها إلى أرض الواقع يعرّفها كيف تنجح بأقل تكلفة.