مصريون تائهون بعد نقلهم من العشوائيات إلى المساكن الحضرية

الرزق والتكافل في الأحياء القديمة والمدينة الجديدة بلا روح.
السبت 2021/08/21
كنا نعيش مع ناسنا

توفير السكن اللائق لفقراء العشوائيات في القاهرة أمر محمود، لكن ما جدوى بيت صحي بلا مورد رزق؟ الحكومة نقلت هؤلاء إلى مدينة نظيفة لكن منعت عليهم افتتاح محلات رزق فيها، فصارت هذه الأحياء الجديدة بلا روح خاصة وأن السكان الجدد لا يعرفون بعضهم، فغاب التكافل بينهم وأصبح الجميع غرباء.

القاهرة - تبذل الحكومة المصرية جهودا كبيرة للتخلص من المناطق العشوائية في محيط القاهرة، ونقل سكانها إلى مناطق حضرية تتوافر فيها إمكانيات الحياة الكريمة.

وأطلقت العديد من المبادرات لرفع مستوى معيشة فئات مختلفة من المواطنين، لكنها فوجئت بأن هذه النقلة النوعية تواجه باعتراضات، فليست هي التي يريدها البعض، لأنها تفتقر إلى الكثير من مقومات الحياة التي اعتادوا عليها طويلا، الأمر الذي يضغط على الحكومة المكلفة بالتخلص من العشوائيات المزدحمة بالسكان في مدى زمني وجيز يتناسب مع متطلبات الجمهورية الجديدة.

منذ أن انتقل إبراهيم حمدي وأسرته للإقامة في حي الأسمرات الحضاري الذي خصصته الحكومة المصرية لسكان المناطق العشوائية بالقاهرة بدلا من الأماكن الخطرة التي كانت تهدد حياتهم، وهو لا يستطيع توفير الحد الأدنى من احتياجات عائلته المكونة من زوجته وأولاده الأربعة لغياب مصادر الرزق التي تعود عليها في منطقته القديمة الواقعة خلف مقر مبنى الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) بالقرب من كورنيش النيل في وسط القاهرة.

كان الأب الذي تحدث مع “العرب” يعمل في مهنة إصلاح الأدوات الكهربائية المنزلية من خلال الورشة التي ورثها عن والده، وتقع في نفس المنزل الذي عاش فيه أغلب أيام حياته، وزوجته تقوم ببيع الخضروات بنفس المنطقة، لكن بعد قرار الحكومة هدم المنازل في المكان لخطورتها على حياة مواطنيها ونقل السكان إلى حي الأسمرات، لم يعد للعائلة مصدر رزق يعينها على توفير أيّ من متطلباتها اليومية.

الممنوع والمرغوب

الحكومة مطالبة بتوفير بدائل رزق للسكان الذين كانوا يعيشون في العشوائيات
الحكومة مطالبة بتوفير بدائل رزق للسكان الذين كانوا يعيشون في العشوائيات

منعت وزارة الإسكان أيّ أسرة في المناطق الحضرية المخصصة لسكان العشوائيات من فتح الورش أو الأكشاك أو القيام بأي أعمال يمكن أن تؤثر على المظهر العام أو تخل بالنظام المعمول به، وتشددت في إجراءاتها وعكفت على إزالة كل المخالفات فور ظهورها كي لا يتحول الأمر من مجرد أفعال فردية إلى ظاهرة وتصاب هذه المناطق بلعنة العشوائية والفوضى مرة أخرى.

ويشتكي أغلب سكان العشوائيات من ندرة الموارد وغياب سبل الرزق في المناطق التي نقلتهم إليها الحكومة، لأن هؤلاء ليسوا متعلمين أو موظفين في قطاعات حكومية أو خاصة بدخل شهري ثابت، بل إن النسبة الأكبر منهم تعتمد على الأعمال الحرفية والتجارة والبيع في الأكشاك والأسواق الهامشية وامتهان العمل بالورش الصغيرة.

لا ينسى إبراهيم أن المنطقة العشوائية التي كان يقيم فيها ضمن “مثلث ماسبيرو” الواقع خلف مبنى التلفزيون الرسمي كانت بالنسبة إليه الوطن الذي احتواه منذ الصغر، ولم يشعر فيه بالحرمان من أي شيء، ورغم قلة الحيلة وصعوبات المعيشة إلا أن البيئة نفسها كانت توفر لكل سكانها السعادة والراحة والقناعة بحكم تلاحم المنازل وقوة الروابط الاجتماعية وتعدد صلات القرابة.اشتكى بعض قاطني المناطق الجديدة بعد نقلهم من العشوائيات إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل أيام على هامش افتتاح وحدات سكنية جديدة في شرق القاهرة من عدم توافر مصادر رزق لأسرهم، ما أثر على ظروفهم الاجتماعية التي أصبحت أكثر صعوبة، وهو ما رد عليه السيسي بأن الحكومة تسعى لحل هذه الإشكالية في أقرب وقت ممكن، مطالبا السكان بالتحلي بالصبر.

وزارة الإسكان تمنع أيّ أسرة في المناطق الحضرية المخصصة لسكان العشوائيات من فتح الورش أو الأكشاك

صار الأب وأفراد أسرته يشعرون بأنهم غرباء في المنطقة الجديدة، فالعشوائية بالنسبة إليه كانت مصدر بهجة، فلا يستطيع بسهولة أن يتأقلم مع فكرة البطالة ولا يملك رفاهية التجول على المنازل التي لا يعرف أصحابها ليبلغهم بأنه خبير ومخضرم في إصلاح الأجهزة الكهربائية المنزلية، حتى زوجته أصبحت ممنوعة من بيع الخضروات في الشارع، لأن جهاز المدينة يرفض إقامة الأسواق الشعبية من الأساس.

تعكس هذه الحالة مفارقة بين العشوائية ومقتضيات التحضر، فهموم البسطاء في مصر أكبر من مجرد سكن كريم، فإذا كانت المناطق المهمشة تمثل خطورة بالغة على حياة قاطنيها لإمكانية انهيار منازلها في أي وقت ووقوع ضحايا كما يحدث كل فترة، فانتقال هذه الفئة للعيش في مناطق حضرية منظمة خالية من كل مظاهر الخلل والفوضى بدون مصادر دخل لأهلها يضاعف الأعباء الواقعة عليهم بشكل يومي.

وإذا كانت الحكومة تتعامل مع بناء وحدات سكنية لقاطني العشوائيات باعتبار ذلك جزءا من حقوق الإنسان، وهو الحق في السكن الآدمي، فإن عدم توفير متطلبات هذه الفئة وتركهم يجاهدون في البحث عن لقمة العيش لن يحقق الغرض الذي تنشده مؤسسات الدولة من تطوير الأماكن السكنية، وقد يكون لذلك تداعيات سلبية لأن عملية إعادة التوطين تمت دون تخطيط أو اهتمام جيد بمستقبل الناس.

يعتقد متابعون لهذه الإشكالية أن الأسر التي انتقلت من العشوائيات إلى مناطق أكثر آدمية لن تتحمل المزيد من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وما يترتب عليها من تدنّ في المستوى المعيشي ولفظ للحياة الجديدة التي لن تتأقلم معها بسهولة مهما توافرت لها المقومات الإنسانية، لأن الحياة الأولى وفرت الحد الأدنى من الراحة النفسية وقد يتحول هؤلاء إلى مصدر إزعاج للحكومة لاحقا من كثرة الشكاوى.

للفقر طعم أيضا
للفقر طعم أيضا

وقال محمد التوني، الذي انتقل مع أسرته للإقامة في منطقة مخصصة لسكان العشوائيات على أطراف القاهرة، إن والده كان يعمل في ورشة صغيرة لإصلاح السيارات، ويوفر للأسرة المتطلبات اليومية المعقولة، وعندما جاء قرار إزالة المنطقة لأنها تمثل خطورة على سكانها تم تخيير الناس بين الحصول على مبلغ مالي نظير ترك المنزل أو الانتقال إلى وحدة سكنية جديدة، فوالده اختار الأخيرة.

وأكد الشاب لـ”العرب” أن أسرته أصبحت تعيش حياة بالغة الصعوبة، فالأسواق بعيدة، وفرص العمل شحيحة، وعندما تقدم والده للحصول على ترخيص بفتح منفذ مبيعات صغير للتجارة في المواد الغذائية قوبل بالرفض، بدعوى أن الحكومة ما زالت تنظر في هذا الأمر، حتى أن من يريد العمل عليه السفر لعشرات الكيلومترات كي يصل إلى المدن المجاورة ما يكلفه مبالغ مالية وإرهاقا جسديا بالغا.

ولا ينكر التوني أن إعادة توطين سكان العشوائيات في مناطق آدمية أعاد لهم الأمل في الحياة، لكن التشدد في الإجراءات من حيث توفير مصادر الرزق ضاعف من الأعباء اليومية للأسر، وأثر سلبا على حالتهم النفسية، خاصة وأنهم اعتادوا الاعتماد على الاستدانة من الأقارب والجيران بطريقة التكافل الاجتماعي، لكن هذه الميزة ليست موجودة في المناطق الجديدة التي لا يعرفون فيها أحدا تقريبا.

وأضافت لـ”العرب” أن غلق الباب على النازحين من العشوائيات تصرف غير عقلاني سوف تكون له تبعات مستقبلية، ومن الضروري أن يكون لهم مصادر رزق راقية تتناسب مع البيئة الجديدة التي يعيشون فيها بعيدا عن إحساسهم بالمّن عليهم، بأن الحكومة وفرت لهم سكنا آدميا وتذكيرهم دائما بأنهم كانوا يسكنون في العشش والمنازل المتهالكة، لأن ذلك يلحق بهم الأذى النفسي.وقالت سامية الساعاتي أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس في القاهرة، إن الحكومة مطالبة بتوفير بدائل رزق للسكان الذين كانوا يعيشون في العشوائيات بأسرع طريقة ممكنة، لأن غلق السبل أمامهم قد ينعكس على تصرفاتهم ويجعل خياراتهم محدودة وردة أفعالهم غير متوقعة، وهذا أمر خاطئ.كل هذه المتغيرات من شأنها التأثير على شبكة العلاقات الاجتماعية، فالشعور بالاغتراب مع زيادة حدة الضغوط أفقدا البعض من السكان ميزة التنفيس عن الأعباء التي يعيشونها بعدما غابت عنهم جلسات السمر والفضفضة في الشوارع المتلاصقة بين البنايات في الحي الشعبي الذي احتضنهم لسنوات، لكن أجواء الألفة والجيرة التي اعتادوا عليها شبه منعدمة نظرا لطبيعة السكن الجديدة.

وما ضاعف الأعباء على سكان العشوائيات المنتقلين إلى مناطق حضرية هو أن الحكومة ألزمتهم بدفع مبالغ مالية شهرية نظير استئجار الوحدة السكنية التي حصلوا عليها، وأمام ندرة العمل وقلة مصادر الرزق، أصبح كثيرون يشعرون بأن الحي الشعبي مهما كانت سوءاته لا يزال أفضل من السكن الآدمي بتعدد مزاياه بعدما ضاقت عليهم الظروف من كل الاتجاهات.

الصوت الغائب

 
Thumbnail

تكمن المعضلة أن صوت هذه الشريحة السكانية التي يقدر أعدادها بالملايين لا يصل إلى دوائر صناعة القرار، خاصة أن أغلب وسائل الإعلام في مصر لا تتطرق لإشكالية المناطق العشوائية إلا بالثناء على إجراءات الحكومة من دون النزول على أرض الواقع وإجراء دراسات مستفيضة حول أحوال الناس بعد نزوحهم من أماكنهم القديمة للعيش في بيئة تفتقد الخدمات والوظائف ولقمة العيش.

ولفتت سامية الساعاتي إلى أن اكتفاء الحكومة بالسكن الآدمي سوف يؤثر سلبا على الهدف الذي تبحث عنه الدولة، باحتواء الفئات البسيطة والمهمشة، والعبرة بأن تكون هناك حالة من الرضا العام على الظروف التي يعيشها هؤلاء لا توطينهم في بيئة قد تضاعف الضغوط النفسية والاقتصادية عليهم وتجعلهم يحنون إلى البيئة العشوائية السابقة.

ومع أن بعض الأسر استطاعت أن تجد منفذا للاسترزاق منه بأي وسيلة، إلا أن الإشكالية الأكثر تعقيدا التي يعاني منها السكان المنتقلون من العشوائيات تكمن في توفير وحدات سكنية لأولادهم المقبلين على الزواج، ففي الحي الشعبي كانت الأسرة تلجأ إلى تعلية المنزل لبناء شقة صغيرة للشاب ليتزوج فيها، وهذا غير مسموح به في المنطقة الجديدة لأن مبانيها ليست مملوكة لأصحابها.

وأوضح إبراهيم حمدي، رب الأسرة الذي تحدث مع “العرب”، أن حياة البسطاء غالبا ما تكون قائمة على التكافل الاجتماعي والاقتراض من الأقراب والجيران في الظروف المعيشية الصعبة إلى حين تحسن الأحوال خاصة في أوقات الزواج، لكن الآن الغالبية في المناطق الجديدة لا يعرفون بعضهم، ولم يتعودوا على نمط الوحدة، ما هدم عادات وتقاليد كانت تمثل راحة نفسية لسكان العشوائيات.

الإشكالية الأخرى أن الكثير من الأسر التي كانت تقيم في مناطق عشوائية تتحمل فيها المرأة العبء الأكبر لتوفير احتياجات عائلتها، مثل العمل كخادمات في المنازل أو الحياكة وبيع الأطعمة والخضروات، ما يضع عليها المزيد من الضغوط بحكم أن هذه المهن لم تعد موجودة في المنطقة الجديدة لتعيش حياة بائسة لعدم قدرتها على تدبير متطلبات الأسرة، خاصة إذا كانت امرأة معيلة.

سجن واسع
سجن واسع

 

 
17