مصروف الجيب الزائد يسهّل انحراف المراهقين

يشكل مصروف الأبناء صداعا مزمنا يؤرق الآباء، بما يجلبه لهم من مشكلات مع الأبناء الذين يرغبون في الحصول على مصروف يلبي كل احتياجاتهم التي قد تفوق قدرات عائلتهم المادية وتتجاوز حدود الطلبات المعقولة، ويضيع الآباء أحيانا بين عواطفهم ورغبتهم في تدليل الأبناء وتلبية كل مطالبهم لكي لا يشعروا بالحرمان وبين ما تستوجبه التربية السوية وعدم المبالغة في تلبية رغباتهم خاصة المادية منها كونها تفتح أمامهم باب الانحراف على مصراعيه.
تتهم الأم دائما بالانصياع وراء عواطفها القوية وبالضعف أمام طلبات الأبناء ورغباتهم وكثيرا ما يلقى عليها اللوم عند حدوث مشكلات تتعلق بمصروف الأبناء وبمطالبتهم بمبالغ مالية قد تعجز ميزانية الأسرة عن تلبيتها، أو عند إقدام أحد الأبناء على شراء أشياء تضره نفسيا أو صحيا مثل السجائر أو عند خروجه في مشاوير ومع أصدقاء قد يتركون أثرا سلبيا على شخصيته ويدفعونه نحو الانحراف.
تقول منى علي، ماجستير إدارة أعمال، “إذا افترضنا جدلا إقدام العائلات العربية على تدليل الأبناء في مصروف الجيب فإنه من غير المقبول مطلقا أن يسري ذلك على الفتيات، فمازالت تقاليدنا وعاداتنا العربية تسعى لحماية الفتاة بكل الطرق ومن بينها عدم الإفراط في تلبية رغباتها ووضع سقف معين لمصروفاتها اليومية”.
وتشير علي إلى أن الوضع يتغير اليوم حيث أصبح من الملاحظ حصول الفتاة على مصروف كبير من أسرتها حتى ولو كانت متوسطة الحال لأنها فتاة تنفق على مكياجها وملابسها ومتطلباتها التي تفوق مصروف الشاب، لذلك فإن “مصروف الفتاة لا يجب أن يكون مبالغا فيه مهما كانت حاجياتها ويجب أن يخضع مصروف جيب الأبناء عموما لرقابة الأسرة حتى لا يحدث خلط بين التدليل والتبذير والانحراف”.
ويؤكد أنور سراج (موظف) “أحيانا تعطي الأسر لأبنائها مصروفا معقولا دون أن تراقبهم فبعضهم يسعى إلى زيادة هذا المصروف بطرق متعددة إما من خلال عمل إضافي وإما من مصادر كسب ملتوية لا يعلم الأولياء شيئا عنها ويتوهمون أن مصروفات أبنائهم تحت السيطرة”.
ويقر أحمد رضوان (موظف ورب أسرة) دائما يجد الأب والأم نفسيهما في مأزق بين حسن التصرف في مواردهما المالية والحب الزائد للأبناء وكلاهما غير سهل، ويقف الآباء موقف المتفرج أحيانا من تدليل الأمهات للأبناء بإعطائهم مصروفا إضافيا دون علم الأب الذي يغرق في دوامة الانشغال والعمل من أجل لقمة العيش حتى لو كان على حساب دوره كرقيب على أفراد أسرته.
وبالرغم من علم الأب في الكثير من الحالات بأن الأم تخفي عليه بعض مشكلات أبنائه التي كثيرا ما يكون المصروف المبالغ فيه قاسما مشتركا بينها إلا أنه يواصل ولا يعلم بالكثير من الأمور إلا عندما ينحرف أحد الأبناء.
ومن جانبها تشير فاتن حميدة (موظفة وربة أسرة) “دائما يدفع الأب المسؤولية عن نفسه في مصروف البيت والأبناء ويجعلها مسؤولية الأم، ولا يسأل نفسه عن الضغوط التي قد تتعرض لها من أبنائها، ويحاسب بعض الآباء زوجاتهم على تدليل الأبناء في المصروف بإعطائهم مصروفا إضافيا ولكن لا يحاسبون أنفسهم عن تخليهم عن دورهم في مسألة التحكم في مصاريف الأبناء”. وتتابع حميدة “أعترف بأن الأم تصبح ضعيفة أمام عاطفتها. كما أصبح أبناؤنا أذكياء وينتبهون تماما لهذه النقطة فيسعون بكل ما أوتوا من قوة للمساومة وقد أخضع كأم لها في غياب دور الأب”.
ويرى أستاذ علم النفس سيد عبدالمنعم منصور أن الأجيال الشابة تختلف تركيبتها وتكوينها النفسي في ضوء متغيرات العصر، إضافة إلى العديد من الاحتياجات النفسية الثابتة في كل زمان ومكان، فالأبناء بدافع التطور ومراحل النمو التي يمرون بها دون وجود رادع نفسي ونضج الكبار تصبح حاجاتهم المادية والمعنوية إلى المال أقوى بكثير مما لدى الكبار الذين قد يضحون ببعضها أو بجزء كبير منها في سبيل تحقيقها لأبنائهم. ويوضح المختص النفسي “يعد المال دافعا نفسيا مركبا لدى البشر باختلاف أعمارهم ومراحل نموهم لأنه يتضمن بطريقة أو بأخرى تلبية الحاجيات الفسيولوجية والاجتماعية والتي تتمثل أهمها بالنسبة للفتيات والشباب في الملابس أو الماكياج… وتتصف حاجة الأبناء إلى المال الذي يعد مصروفهم – المرادف الحقيقي له – بالاستهلاكية الشديدة وهو ما يحتاج إلى تدخل الأب أو الأم لكبح جماحهم حتى لا يكونوا فريسة للتدليل الذي يعد أول الأمراض النفسية البسيطة والحادة في نفس الوقت”.
وأثبتت العديد من البحوث النفسية أن هذا المصروف يمثل للأبناء أسلوب حياة ووسيلة وغاية نفسية تمكنهم من تحقيق مقاصدهم أحيانا بعلم الأسرة وأخرى دون علمها وهنا يكمن الخطر، فطالما أن احتياجات الأبناء تعلمها أسرهم فلا ضرر من أن يكون المصروف كبيرا، ومن الضروري معرفة أوجه إنفاق المصروف لدى الأبناء الذين يتعرضون لضغوط نفسية داخلية متمثلة في إحساسهم بذواتهم وبحريتهم في التصرف بالمصروف الذي يتوهمون أنه أصبح ملكا خاصا لهم يتصرفون فيه كيفما يشاؤون.
ويعتبر أستاذ علم الاجتماع أنور العدل أن طغيان القيم المادية على حياتنا المعاصرة يتسبب في جعل المال هدفا اجتماعيا قويا في حياة أبنائنا، وطغيان هذه المعايير على علاقات الأبناء الاجتماعية بأسرهم أصبح يمثل مرضا اجتماعيا يجب مواجهته وتخفيف حدته، لأن المال ليس إلا مجرد وسيلة وسط هذا الخضم الهائل من سيادة العديد من القيم الاجتماعية الغريبة على مجتمعاتنا العربية في ظل مجتمع الحداثة وما بعدها اللذين تمثل فيهما المادة قيمة متعاظمة.
ويضيف العدل “رغم أن تدليل الأبناء في حدود المعقول بما يتناسب مع المصروف المخصص لهم لا يمثل خطرا اجتماعيا، إلا أنه يتسبب أحيانا في اختلاط الحدود بين التدليل والانحراف الذي تتزايد آثاره في مرحلة المراهقة والشباب”، وأظهرت العديد من دراسات وبحوث علماء الاجتماع أن مصروف الأبناء يتسبب في ما لا يقل عن 25 بالمئة من حالات انحرافهم وفي حدوث مشكلات أسرية واجتماعية بنسبة تتراوح بين 15 بالمئة و35 بالمئة.