مشروع قانون يفجر أزمة جديدة بين الحكومة المصرية والأطباء

القاهرة - فاقم اقتراح برلماني يقضي بحظر استقالة الأطباء أو هجرتهم قبل مرور سنوات معينة على توظيفهم الصراع الدائر بين نقابة الأطباء والحكومة بشأن مشاريع قوانين تتضمن نصوصا تهدد بإلحاق أضرار بالقطاع الصحي في البلاد.
وانتقدت نقابة الأطباء المقترح الذي يقضي بعدم قبول استقالة الطبيب إلا بعد مرور عشر سنوات من الخدمة أو دفع ثلاثة أضعاف تكاليف الدراسة الجامعية للحكومة، في محاولة للحد من ظاهرة هجرة الأطباء ورفض العمل في العديد من المستشفيات الحكومية، فيما أكدت النقابة أن هذه النقاشات سوف تقود إلى مشكلات معقدة.
وأحدث هذا التطور جدلا واسعا لتمسك بعض الدوائر الرسمية بالتعامل بطريقة صدامية مع الأزمات التي لها علاقة بملفات خدمية، ولا تتعاطى بحنكة معها بصورة تفضي إلى حلها بلا عناد يؤدي إلى زيادة السخونة في المشهد العام.
ولم تتعاط الحكومة مع تحذيرات نقابة الأطباء بشأن ظاهرة الاستقالات الجماعية لأعضائها بالجدية اللازمة التي تتناسب مع طبيعة الموقف، وتجاهلت الأمر وقررت عدم فتحه، حيث تدرك أنه سيدفعها إلى زيادة رواتب الأطباء وتقديم ترضيات مادية ومعنوية.
واستقال أكثر من 11500 طبيب من المستشفيات الحكومية خلال السنوات الثلاث الماضية، ما ضاعف التحديات التي تواجه قطاع الصحة الذي يعاني من نقص حاد في الكوادر الطبية، فهناك 6 إلى 8 أطباء لكل عشرة آلاف شخص.
واعتاد البرلمان المصري مناقشة تشريعات تتعلق بالأطباء بطريقة تعتمد على الترهيب أكثر من الترغيب، وهي إشكالية لم تتدخل الحكومة لحلها، بعد أن أصبحت عاجزة عن ترضية الأطباء الذين يشتكون من رواتب هزيلة تصل إلى مئتي دولار شهريا، فضلا عن عدم حمايتهم من اعتداءات متكررة أثناء العمل.
وتشير إحصائيات صادرة عن لجنة الصحة بالبرلمان المصري إلى أن نسبة هجرة الأطباء بلغت في بعض مستشفيات المناطق النائية 50 في المئة، وبلغت النسبة ذاتها داخل مستشفيات الحضر 34 في المئة، ووصلت في قطاع التمريض إلى 55 في المئة.
ويفضي تمرير مشروع القانون الذي يحظر استقالة الأطباء قبل عشر سنوات، مثل ضباط الجيش والشرطة، إلى انتكاسة جديدة في القطاع الصحي، فأي خريج في كلية الطب لن يقبل بالعمل في مؤسسة طبية حكومية هذه المدة، وسوف يهاجر مبكرا أو يسلك مسارا للعمل في القطاع الخاص.
ويدفع البرلمان المصري بمقترحه الأطباء إلى ثورة غضب قد تسقط القطاع الصحي في أزمة أشد تعقيدا، وتضطر الحكومة لدفع فاتورة باهظة لترضية الأطباء وتحسين صورتها أمام المجتمع، لأن عنادها سينعكس سلبا على تصرفاتها العامة.
ويشعر الكثير من الأطباء في مصر بأن أزمتهم مع الحكومة يمكن اختصارها في تخبط الأولويات، حيث تنفق ببذخ على المشروعات التنموية مقابل تهميش نظيرتها الخدمية مثل التعليم والصحة، وترفض أن تتحرك بتوازن بين المشروعات التنموية والخدمية وبما يرضي كل الأطراف ولا يقود إلى أزمات لها أبعاد سياسية.
ولخّص الطبيب حاتم عثمان استقالته من المستشفى الحكومي بعد عامين فقط بأنه تعرض لما يمكن وصفه بـ”الاضطهاد المادي والمعنوي”، فلا الحكومة تهتم بأوضاع الطبيب، ولا الناس يلتمسون لهم الأعذار عندما يخطئون، وهم يعملون في بيئة خالية من الكثير من المقومات التي تساعدهم على تقديم خدمة جيدة.
وأشار عثمان في تصريحات لـ”العرب” إلى وجود نقص في إمكانيات المستشفيات العامة، وغضب الناس يوجه ناحية الأطباء بالاعتداء اللفظي أو المادي، وفوق كل ذلك ليس هناك تقدير مالي من الحكومة، مع أنها مستعدة لتخصيص مليارات في مجالات بعيدة عن القطاع الصحي.
ولم يجمد مجلس النواب مشروع قانون المسؤولية الطبية ولم يلغ حبس الأطباء حال ارتكاب خطأ طبي، ولا يزال يجري التعامل مع أخطائهم التي تقود إلى الوفاة ضمن الجرائم الجنائية، وتسري العقوبة على الطبيب باعتباره “مهملا”، ولا تقل فترة الحبس فيها عن سنة، ولا تزيد على خمس سنوات.
وقادت هذه النوعية من الإخفاقات إلى بحث الكثير من الأطباء عن فرصة العمل في الخارج دون إبلاغ نقابتهم.
وتتعاطى الحكومة المصرية بتقشف شديد مع قطاعات خدمية مهمة دون إدراك لتبعات ذلك على مستوى تذمر الكثير من المواطنين الذين يتحفظون على التوسع التنموي ويرغبون في الحصول على الحد الأدنى من الخدمة الجيدة في المستشفيات.
ويؤكد التحرك البرلماني نحو معاملة الأطباء مثل ضباط الجيش والشرطة في مسألة عدم الاستقالة قبل عشر سنوات، أن الجهة التشريعية الأهم في مصر تتعامل بازدواجية، لأن المعاملة يجب أن تكون بالمثل في كل شيء، وعلى رأسها المقابل المادي الذي يتحصل عليه كل من الطبيب والضابط.
البرلمان المصري يدفع بمقترحه الأطباء إلى ثورة غضب قد تسقط القطاع الصحي في أزمة أشد تعقيدا وتضطر الحكومة لدفع فاتورة باهظة لترضية الأطباء
وعلق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على هجرة الأطباء إلى الخارج، معترفا بأن الرواتب التي يحصلون عليها لا تناسبهم، لكن الدولة لا تستطيع توفير المزيد من المخصصات التي ترضيهم وتدفعهم إلى عدم البحث عن فرصة أفضل في بلاد أخرى.
وقال خالد سمير عضو مجلس نقابة الأطباء سابقا ونائب رئيس حزب المحافظين إن أي تحرك برلماني لمعاملة الأطباء مثل الضباط تشوبه عدم دستورية، كون الطب كلية مدنية لا تخضع للمعايير العسكرية، وكان من الضروري أن يناقش البرلمان أسباب هجرة الأطباء وتحسين بيئة عملهم أولا.
وأضاف سمير في تصريحات لـ”العرب” أن الطبيب المصري يعمل في ظروف صعبة، ومساواته بالضباط في شروط الاستقالة لا يتسق مع العدالة المهنية، ولا بديل عن تغيير الحكومة لنظرتها إلى القطاع الصحي ومنحه أولوية كبيرة، فتهميش المؤسسات الطبية يدفع نحو المزيد من الاستقالات في صفوف الأطباء.
وبعثت الحكومة ببارقة أمل في مارس الماضي من خلال تشكيل لجنة لدراسة تحسين أحوال الأطباء، لكنها لم تخرج بتوصيات جادة، ما أوحى لكثير من أبناء المهنة بأن الأمر لا يخرج عن أنه عملية تخدير وتهدئة لثورة الأطباء المكتومة.
وأوضح عضو مجلس نقابة الأطباء أن “بعض الدول التي تشهد صراعات، مثل الصومال وليبيا، تمنح الطبيب راتبا شهريا مغريا يتخطى عشرة أضعاف ما يتحصل عليه الطبيب في مصر، كما أن البيئة الصحية نفسها تعاني من مشكلات عميقة، في حين لا تكترث الحكومة بأن النهوض بالخدمة العامة يفترض أن يكون مشروعا قوميا”.
وتتمسك وزارة المالية المصرية بتسجيل الأطباء في منظومة الفاتورة الإلكترونية والسعي لتطبيقها، وهي منظومة اشتكت منها نقابات عدة لأنها سوف تحمل الأعضاء أعباء مادية مضاعفة.