مسلسل نفسي يضيع في متاهة العلاقات المتشابكة

تعتبر المسلسلات النفسية الأكثر تعقيدا في مستوى إنتاجها لاحتياجها إلى أحداث مترابطة تحافظ على مساحات التشويق وقدرات تمثيلية تخلق حالة من تحريك المشاعر للجماهير، والأهم من ذلك الكفاءات الإخراجية القادرة على خلخلة نمطية الحكي في غرف عيادات الأطباء وتحريرها من الملل.
القاهرة – رغم توصيف مسلسل “الدائرة” الذي تعرضه قناة الحياة المصرية حاليا، تحت جناح المسلسلات النفسية، لكنه شطح عن قواعدها ليميل تجاه الدراما الشبابية الشبيهة بأعمال المراهقين، مع مسحة اجتماعية عن تأثيرات اختلالات القيم الأسرية، على نشأة الأبناء بصورة سوية، وسوء فهم الشباب لطبيعة العلاقات الزوجية .
ويدور العمل حول الأخصائي النفسي يوسف زهران (الفنان أحمد صلاح حسني)، الذي يملك جميع مقومات الشاب الناجح من ثراء فاحش وشهرة في مجاله، لكنه في الوقت ذاته غير قادر على إقامة علاقة عاطفية سوية، رغم تفانيه في عمله ومساعدته الآخرين على إكمال حياتهم.
ويجد الطبيب نفسه محاطا بشبكة من المتردّدين على عيادته الذين يحاول مساعدتهم وتربطهم جميعا شبكة علاقات غريبة في مراحل حياتهم، مع تضارب كبير في رواياتهم عن بعضهم البعض ما يصعُب معها تمييز الحقيقة والكذب في حديثهم.
ويشبه مسلسل “الدائرة” متاهة من الشبكات العاطفية التي تتوه معها العقول عن الاستيعاب أو التصديق، مع تغيرات العلاقات بين أبطاله بوتيرة تشبه تغيير الملابس اليومية، فمع أي مشكلة يكون الخيار الأول هو الانفصال والدخول في علاقة جديدة.
وفي العمل، مرت هند (الفنانة إيمان العاصي) بخمس علاقات عاطفية، بينها ثلاث زيجات فاشلة، وارتبط عادل (الفنان محمد علي رزق) بأربع فتيات وتزوّج واحدة منهنّ، وكذلك وليد (الفنان أحمد جمال سعيد) الذي خاض أربع علاقات أيضا انتهت اثنتان بالزواج ثم الطلاق، ومثلهما لفريدة (الفنانة إيناس كامل) التي تمّت خطبتها من أربعة أشخاص، ولم تصل مع أي منهم إلى ارتباط كامل.
والإشكالية في المسلسل لا تتعلّق فقط في موجة الزواج والطلاق الخطوبة والفسخ، لكن في طبيعة تداخل تلك العلاقات التي تحتاج معها إلى رسم خارطة كي لا تتوه الشخصيات من العقول، فعادل ترك فريدة ليتزوّج هند مثلما تركها يوسف، لتجد ضالتها في وليد الذي كان متزوّجا من هند ولديه ابنة من ديانا (الفنانة أماني كمال) التي كانت متزوّجة من حسين (الفنان محمود حافظ) زوج هند الأسبق، وتزوّجت أيضا من طارق الذي كان خطيب فريدة ومرتبطة عاطفيا برامي (الفنان إسلام جمال) أول قصة حب في حياة هند.
ويمتد الأمر أيضا بالنسبة إلى ياسمين (الفنانة مي القاضي) التي سبق وأن خطبت من عادل وحسين وكانت على علاقة بيوسف أيضا، كذلك الحال مع ميرنا (الفنانة هلا السعيد) أول قصة حب في حياة عادل والتي ارتبطت عاطفيا بكل من حسين وطارق ويوسف ورامي.
ولا تظهر الجلسات التي يعقدها الطبيب في عيادته أي إظهار لقدراته، فالرجل الذي يملك وشما على ذراعه ولديه بناء عضلي ضخم، يكتفي بالتشمير عن يديه في الجلسات وصنع قهوة لضيوفه ويجلس ليستمع، وتعليقاته شبيهة بجلسات الأصدقاء على المقهى، حتى حينما يقول لأحد زبائنه المعتادين أنه مريض لا يكتب له علاجا أو يقدّم نصيحة ويكتفي فقط بإنهاء الجلسة.
وطوال عشرين حلقة لم يغيّر يوسف نمطه المعتاد، يستيقظ ليمارس الرياضة في قصره، ويتوجّه إلى عيادته، فيسأل ممرّضته عن عدد الحالات التي سيتعاطى معها، ثم يتوجه إلى ملهى ليلي يضم صديقيه اللذين يجلسان في كل مرة مع فتاتين مختلفتين، يحكيان لهما عن بطولات صديقهما الطبيب الذي يستطيع أن يكشف ما يدور في العقول ويحلّل تصرفات البشر.
ورغم أن سمة الإخراج في القصص النفسية تعتمد في المقام الأول على التشويق والأداء والتمثيل دون الإفراط في التصوير الخارجي، غير أن مسلسل “الدائرة” الذي أخرجه أحمد سمير فرج، افتقد السمة الأساسية المميزة التي ينتظرها الجمهور من الأعمال التي تغوص في النفس البشرية ليحصر دوره في معرفة من الصادق، ومن الكاذب؟
وعلى المستوى التمثيلي، كان الأداء فاترا فلا مساحات لذرف الدموع من سيدات يفترض تعرضهنّ للضيم أو عانين في مشوار حياتهنّ، أو رجال تلقوا ضربات في أعزّ ما يملكه البشر من كرامة، وحتى البطل ذاته لا تتماشى لغته وطريقته التهديدية المستمرة لباقي الأبطال في الملهى، أو تحفّزه للاشتباك العضلي دائما مع أشخاص معروف عنهم الإجرام، مع واقع العالمين بمهنة الطب من الأساس.
ولا يُظهر أبطال العمل قدرا من الاضطراب النفسي في أثناء حديثهم الممتد مع يوسف أو أي نمط سيكولوجي وسلوكي، ربما لعزل كاتب السيناريو محمد عبدالمعطي، العمل من دسم الواقع وحصره في الأثرياء ماليا في منتصف العمر والعاجزين عن الدخول في علاقة جادة، فكل أبطاله من ذوي المهن الرفيعة. مدير بنك أجنبي، أو مهندس ديكور عاش حياته في أميركا، أو حزمة من سيدات الأعمال لديهنّ شركات ناجحة في مجال التجميل والعقارات والدعاية والتسويق.
ويفتقر سيناريو العمل لتبريرات تفسّر أسباب رفض يوسف الزواج إلا علاقة والديه المضطربة، لكن تم تقديمها بصورة كوميدية أضاعت فحواها، فالزوجان منفصلان منذ 30 عاما، لكنهما يقطنان في وحدتين متجاورتين باباهما متلاصقان، ويزوران بعضهما، ويمارسان مكائد لفتح مجال للحديث المشترك، بالسطو على حسابات مواقع التواصل أو حذف القنوات التلفزيونية أو تحرير طيور الزينة من الأقفاص.
يبتعد “الدائرة” عن العلاقة الحقيقية بالعالم النفسي، إلا في عنوانه المستمد من دوائر العقل المتداخلة التي ترتبط كل منها بنمط سلوكي للإنسان، مثل مراكز الغرائز والاحتياجات والدوافع النفسية المتعلقة بالعقل الباطن والواعي والعلاقات مع البشر.
وحصر المسلسل التشويق في قصة حب يوسف من هند وصراعه النفسي بين الواجب المهني باعتبارها زوجة مريضه قبل انفصالهما ورغباته، قبل أن ينتقل إلى درجة أخرى تتعلّق بتقبّله لها ككائن وديع رغم تشكيك شبكة من تعاملوا معها وأزواجها السابقين في شخصيتها ورسمها كأخطبوط يحتضن ضحيته قبل أن يهوي بها إلى الأعماق.
العمل لم يرتبط بالعالم النفسي، إلا عبر عنوانه المستمد من دوائر العقل المتداخلة التي ترتبط كل منها بنمط سلوكي للإنسان
ويقدّم العمل صورة مغايرة للحب تحوّله من شعور وجداني نبيل إلى قضية ملموسة نفعية في المقام الأول كعشق النفوذ والسلطة والقوة والامتلاك والمتعة، فالبشر داخله خفافيش تمتصّ دماء بعضها البعض فحبيب هند الأول تركها بعد تحقيق فرقته الغنائية الشهرة، وتعود هي لتترك زوجها بعدما تعرّض لهزة وجدانية بوفاة والده.
كما هجر طارق (الفنان محمد علاء) فريدة بعدما تعرّضت لحادث سيارة، ووليد ألقى بزوجته في الشارع بعدما وقفت تدويناتها المتحرّرة على وسائل التواصل الاجتماعي في طريق وصوله إلى منصب رفيع في شركة عقارات مالكها من ذوي التوجه الديني.
وتطرّق العمل إلى قضايا اجتماعية مهمة مرتبطة بتزايد معدلات الطلاق في مصر خلال السنوات العشر الأخيرة، لكنه تناولها بسطحية دون الغوص في التفاصيل، كفكرة بحث الشباب عن الزوجة المتكاملة من جميع النواحي، وتفضيل بعضهم الشكل الخارجي على المضمون، والملل الزوجي والغيرة القاتلة، والبرود الجنسي، وسوء توزيع المهام المنزلية بين الرجل والمرأة.
يريد “الدائرة” توصيل رسالة مفادها بأن البشر في علاقاتهم لا يجب أن يبحثوا عن كائنات صلصالية لتشكيلها على مقاسهم، ويتقبلوا التعايش مع الآخر على الرغم من عيوبه، مع التأكيد على أن الشخص قد يكون سيئا في علاقة زواج بشهادة الجميع، لكن قد يصبح جيّدا في علاقة مع شخص آخر.
وفي مصر مثل دارج يتعلّق بالرقص على السلالم بين طابقين الذي لا يعطي فرصة لمن في الطابق الأعلى للرؤية أو حتى السمع لمن في الطابق الأدنى، وهو ما ينطبق تماما على “الدائرة” الذي فقد بوصلته، فلا هو أكمل في الدراما النفسية وطعّمها بالمزيد من العمق كوصول بعض أبطاله إلى الانفصام أو الاكتئاب أو محاولة الانتحار، ولا جعلها قصة اجتماعية تغوص في مشكلات الزواج والطلاق بتمعّن، وقدّم شيئا من كل شيء.