مسرحية "أترك أنفي من فضلك" بلا بوصلة فنية

في ظل ندرة الأعمال المسرحية التي يمكن أن تصلح للمشاهدة الأسرية وتتنوع خلطتها بين المبهر الجاذب للصغار والقيم للكبار، من المفترض أن يستقبل أي عمل يحمل تلك التركيبة بحفاوة بالغة وتشجيع، غير أن ما حدث مع مسرحية "أترك أنفي من فضلك" التي عرضت قبل أيام بمصر جاء خلاف ذلك.
عرضت أخيرا على مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية مسرحية “أترك أنفي من فضلك”، لكنها لم تستقبل بحفاوة لأن الخلطة الفنية بدت مرتبكة خاصة في النص، والهدف من العرض ظهر ضبابيا وبرسائل ترسخ قيما سيئة، بالنظر إلى جمهور مستهدف من الأطفال.
ربما لم يصنف أفراد العمل مسرحيتهم كمسرحية للأطفال أو الأسرة، لكن الدمج بين أسطورة “أليس في بلاد العجائب” والمسرحية العالمية “قضية أنوف” للكاتبة ماروسا بلاتا، وتدور حول الصراعات “التافهة” في الشرق الأوسط، كان كفيلا بإنتاج مسرحية من ذلك النوع، إذا أحسن المؤلف الدمج، وكانت الرسائل واضحة لديه لتصل إلى المتلقي مباشرة.
أزمة النص
مشكلة العرض، إذا تغاضينا عن ظروف غياب الديكورات وتقديمه بأقل الإمكانيات المتاحة في ظل الأجواء المصاحبة لجائحة كورونا، وعرضه للمرة الأولى على مسرح مكشوف غير مجهز، فإن ثمة أزمات حقيقية في العمل، بداية من الرسائل المتسربة منه والتي ترسخ التنمر في عقول الأطفال بدلا من مواجهته، وتنمط الرجعية مقابل قبول الآخر، مرورا بهرولة النص وتعديله لتضمين نكات رائجة، استجلابا للضحك، ما جعله أقرب إلى منشور وليس نصا مسرحيا رصينا له احترامه في ذاته. يبدأ النص بظهور أليس على المسرح لتروي قصة أسطورية عن صديقين سيسو وبيسو اللذين اعتادا على اقتسام كل شيء من صغرهما، حتى توطدت علاقتهما، وحين كبرا رفضا الزواج وقررا أن يعيشا معا.
وكي تتوطد العلاقات أكثر بين العائلتين، تزوج شقيق وشقيقة الصديقين من بعضهما، وعاشت العائلة التي تتكون من الجدة والأخت لأحدهما، والشقيق والأب للآخر معا في منزل واحد.
لسبب تافه تتبدل العلاقات داخل المنزل، ويثور الشقاق وتعلن الحرب بينهما، لينقسما إلى فريقين، فريق من أصحاب الأنوف الكبيرة التي كانت بالأساس سبب الأزمة حيث تحولت من مزحة إلى حرب، وفريق آخر من أصحاب الأنوف الصغيرة.
تتواصل المسرحية مبرزة ما يمكن أن يحققه المنتفعون والمذكون لنار الفتنة بين صديقين، وكيف يزورون الأحداث ويزيفون التاريخ ويعيدون قراءة الوقائع لتحقيق أهدافهم.
الرسالة في مجملها، المنبثقة عن النص الأصلي “قصة أنوف”، مواتية تماما للإسقاط على أحداث عديدة في المنطقة، يستطيع المشاهد أن يراها في الصراعات، غربا وشرقا، لولا إفسادها، تارة بنكات مصطنعة، وأخرى بخلل في الدراماتورجيا، وهي تجهيز النص الرئيسي لإعادة تقديمه على المسرح، بما يلائم زمانا ومكانا معينين.
تضمنت المسرحية تعديلات على النص لم تكن موجودة من قبل، وهي التي عرضت منذ 3 سنوات ضمن مهرجان المسرح القومي، بعضها خاص بأجواء كورونا وأعراضه والمسحة التي يتم إجراؤها للتأكد من الإصابة بالفايروس، وأخرى مرتبطة بموجة سخرية انتشرت على مواقع التواصل من نادي الزمالك المصري بعد واقعة وصفه بـ”نادي القرن الحقيقي”.
الحدثان تم تضمينهما في العرض، وبالفعل نجحا في إضحاك الجمهور، غير أنهما لم يكونا مواتيين لجوهر العرض، وساهما في تفكيكه ليبدو كما لو كان جزءا من منشور مفكك على فيسبوك، أكثر منه عملا مسرحيا مقتبسا من أعمال عالمية راسخة.
صراعات مملة
الرسائل المتسربة من العرض ترسخ التنمر في عقول الأطفال بدلا من مواجهته وتنمط الرجعية مقابل قبول الآخر
انقسم المسرحيون حول تلك القضية، قدسية النص ورصانته مقابل تجديده وتطويعه على نحو مستمر ليلائم الأحداث والمتغيرات.
يقول الكاتب المسرحي يوسف مسلم لـ”العرب”، القضية تتضمن رأيين، الأول يرى أن الدراماتورج له الحرية في التعامل مع النص وفكه وتركيبه والإضافة والحذف، وهذا معمول به في مصر على نحو واسع.
ويرى الرأي الآخر أن الدراماتورج لا بد وأن يحافظ على روح نص المؤلف، وذلك لا يمنع تكييفه للنص مع ظروف العرض ومن ضمنها الظروف الاجتماعية، وإضافة تفاصيل تمنح النص صفة معاصرة، أو تربطه بأمور تحدث في الواقع لكن دون الإخلال بجهد المؤلف.
ويضيف أن نص مسرحية “أترك أنفي من فضلك” دراماتورج لنص أجنبي، لكن إسلام إمام (مؤلف ومخرج العمل) ينتمي إلى المدرسة الأولى، التي يمكن أن تغير النص وتفقده روحه إلى درجة “المسخ”.
إذا تعاطينا مع العرض المسرحي ورسالته من منظور جمهور الكبار، لتوقعنا أن تتضمن نقطة تنوير أو تفكير أو مصارحة تنتهي بمواجهة، فكرت في تقديم الحل أو شرحت المشكلة، لكنها لم تفعل سوى أنها قدمت تناولا للصديقين في الفتنة الدائمة، وجعلهما لعبة مستمرة في أيدي محركيهم دون وجود منطقية في ذلك، وفق النص الضعيف الذي لم يجعل من مطلقي الفتن أصحاب حجج ولم يجعل من المنساقين إليهم سوى حمقى.
العمل الذي يفترض أن يتضمن عقدة وذروة وحل، لم يقدم سوى عرض مطول ممل لمشكلة، لا تحفز رسائلها على التفكير والإسقاط، مع الكثير من الأخطاء المنهجية.
فمثلا التجريد الذي يُفترض أن تدور في فلكه المسرحية، من حيث الزمان والمكان، بما أنها مستمدة أحداثها من قصص أسطورية لا تنتمي إلى التجريد سوى في الملابس المبهرجة اللافتة والشعر الأشعث الذي يخرج العمل من إطار الواقع إلى الفانتازي، لكنها في المقابل تستخدم نكات العصر، وتتحدث عن المنزل بوصفه الدولة، فتلبس الإسقاط بالمسقوط عليه، وهكذا في تداخل مستمر. كان يمكن تجاهل عمق الرسالة وتماسكها وطريقة السرد ومنطقية العرض وعلاقاته بالواقع والفانتازي، إذا تعاملنا معه كعرض للأطفال، خصوصا بالنظر إلى العرائس المضمنة في العرض والملابس المزخرشة التي هي جزء منه لتجذبهم، لكن هل يصلح العمل كمسرح أطفال؟
الإجابة لا، فالعمل الذي يحوي إيحاءات جنسية لا يُصلح أن يقدم أو يستهدف به الأطفال، حتى إذا كانت تلك الإيحاءات بهدف الضحك، والعمل يعرض باستفاضة على مدار الساعة، التنمر، ويرسخ رفض الآخر، ويقدم رسائل متتالية عن ذلك الرفض، ويقلل من قيمة الصداقة، وإن كان مقصودا به عرض الصراعات التافهة ومآلاتها، والطفل الذي لا يملك ذاكرة الكبار سيخرج من العرض وقد ألصقت بذاكرته الكثير من العبارات التي سمعها.
من ثم فإن تكثيف عرض رسالة معينة على الطفل حتى إذا اختتمتها برأي سلبي عن تلك الرسالة أو نصيحة وتوجيه بعدم اتباعها، فالمتوقع أن تثبت الرسالة التي عرضت على الطفل فترة أطول وليس التوجيه الأخير، فماذا إذا كان التوجيه الأخير نفسه يرسخ القيم السلبية؟
على مدار العمل، الذي هو صراع بين فريقين: أصحاب الأنوف الطويلة وأصحاب الأنوف الصغيرة، يبذل كل فريق جهده في التنمر ورفض الآخر، وإبراز ذاته على أنه الأفضل، فيما تبحث البطلة الراوية أليس عن حل تمخض عن كارثة وليس حلا، وهي إخفاء التمييز، وقررت إجراء عملية للعائلتين لتركيب أنف واحد متماثل في الحجم والشكل.
بعد أن أغلقت قضية الأنوف، تجدد الصراع داخل المنزل على صفات أخرى متباينة، كل يرفض من ليس على شاكلته، ليُختم العرض، فيما الممثلون يجتمعون في مقدمة المسرح يمدون رؤسهم وكل يتنمر على الآخر، وبين الجلوس أطفال من سن الرابعة يشاهدون ذلك.