مزيج تشكيلي غرائبي من الوعي واللاوعي

تقاطع ألوان ومشاهد في لوحات العراقي رياض نعمة.
الجمعة 2022/03/04
ألوان غير منضبطة

يستمر الفنان التشكيلي العراقي رياض نعمة في نشر أعماله الفنية على صفحته في موقع فيسبوك، وهي لوحات تتحدث عن اختباره المستمر لحدود المواد التلوينية والتقنيات الفنية المُوظّفة لها. ومعظم هذه الأعمال تشترك في كونها تشهد فوضى لونية جذابة ومتجانسة.

مُتابع سيرة التشكيلي العراقي المقيم في بيروت رياض نعمة سيدرك مع كل عمل جديد له أنه فنان منشغل بالإنسان ليس بشكل عام  وإنما بحالاته الدرامية المتصلة اتصالا وثيقاَ بالمعاصرة وبالأخص تلك الحالات المتصلة بأثر زمن الديجيتالية “الفلسفي” في مجمل مرافق الحياة الإنسانية، لاسيما الوجدانية منها. فلوحاته، خاصة تلك التي أنجزها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ترصد حالة الإنسانية أو لنقل ما تبقى من ملامحها قبل أن يحلّ المنطق الجديد للعيش مع الآلة والآفاق المفتوحة على المجهول المُطلق.

وربما يمكن أن نعتبر الفنان من القلائل الذين يشكلون نصهم الفني، لاسيما في السنوات الأخيرة، بمزيج غرائبي وشيّق من الوعي واللاوعي، ومن التخطيط المُسبق والإفلات من سلطة المراقبة النفسية – الداخلية في آن واحد.

وبالنسبة إلى الشق “المنضبط”، إذا صح التعبير، من عمله الفني الذي يرضخ تحت سلطة وعيه الكامل والذي يتعلق بالتعبير عن المآسي الإنسانية بشكل عام من خلال الوجع العراقي فهو، أي عمله الفني، يتضح أيضا عبر كلمات الفنان حين قال إن لوحاته هي مشاهد ونتائج عن”تداعيات السياسات الخاطئة للأنظمة الدكتاتورية في العالم والبلدان العربية خاصة، وأثرها على المجتمعات، كما أنها توثق لأحداث مؤلمة تمر بها المنطقة العربية”.

أما من ناحية الأسلوب، وأيضا تحت رقابة الوعي والتمكن المُتمرس من التقنيات الفنية ووظائفها التي استخدمها تباعا في لوحاته، فقال الفنان “أحرص في كل معرض على أن أستخدم تقنيات جديدة لإبراز مضمون أعمالي المتمثل في الوجع الذي يعاني منه الإنسان”.

وأضاف الفنان في موضع آخر أنه قدم عبر السنوات تجارب في الرسم المباشر وتطويع المعادن واستخدام تقنيات طباعية وفوتوغرافية لأجل استنطاقها ودفعها إلى المساهمة في كل ما عندها من مواصفات وإمكانات لإنجاز لوحة متكاملة أسلوبا ومضمونا.

الوجع العراقي جزء من المآسي الإنسانية
الوجع العراقي جزء من المآسي الإنسانية

ولكن ماذا بالنسبة إلى كل ما هو غير مباشر في لوحاته؟ ماذا بالنسبة إلى الأفكار المُهادنة إلى حين والتي تكونت ولكن لم تتبلور كليا في أشكالها الهادرة لتستقر في لوحاته؟

أوصلت التجربة والحساسية تجاه المحيط المباشر والعام الفنان إلى غنائية عالية اقتحم فيها اللون شخوص وخلفيات لوحاته اقتحاما يشبه إلى حد بعيد تفشي الحبر في رقعة ماء أو “سقط” في لوحاته كما تسقط الصفائح المعدنية على الطرقات في ليلة اشتدت فيها الرياح.

ولئن كان الفنان قد أبدع في لوحات سابقة كما في تلك التي عرضها تحت ثيمة “الشارع” إقامة مكانين منفصلين عن بعضهما البعض ولكن متصلين من ناحية فعل التلقي والتأمل ما بين الشخوص والأطفال الذين يقفون ويتأملون، وجدران المدينة وما تحمله من بصريات مختلفة كالملصقات المهترئة والخربشات التي ضاعت معالمها، فإن لوحات الفنان الأخيرة أظهرت أمكنة تجريدية موحدة يجرّح فيها اللون الشخوص كفعل الشفرات التي تنسحب ببرودة القاتل على جميع مرافق حياتنا الآنية تقشيرا واستنزافا.

ويهوي اللون في مجموعة من أهم لوحات الفنان نعمة كمقصلة أثيرية مُشفرة تحيلنا إلى الأنظمة الرقمية التي تُمسح من خلالها المساحات والوجوه وكل عنصر يتألف منه العالم ويُثمن وفق هذا المسح البياني والمبني على “جدوى” هذا الشيء أو هذا الكائن من الناحية الاقتصادية والمادية البحتة.

ومن أهم لوحاته من تلك المجموعة اللوحة التي نشرها على صفحة الفيسبوك الخاصة به حيث رسم الفنان وجه امرأة. ويطغى على اللوحة اللون الأحمر المتفجر ويرتسم فيها الهدوء المُربك في آن واحد. ورسم الفنان القسم الأعلى من خلفية اللوحة ووجه المرأة على السواء مسحوبا من كل الألوان الممكن تخيلها. وكأن الجزء الأعلى من اللوحة قد ذوبت ألوانه “بأسيد” الرمادي المُكفهر.

ألوان ثائرة بتخطيط مسبق
ألوان ثائرة بتخطيط مسبق

وكتب الفنان مُعلقا على لوحته تلك “لم يعرفوني في الظلال التي تمتص لوني في جواز السفر”.

وعلى المستوى الأول من المعنى نعثر على هاجس الهوية الضائعة أو المهددة بالضياع ولكن ما نلبث أن نرى في تلك اللوحة وفي غيرها مما أنجزه الفنان بذات المنطق، أي حيث انسدل على نصف اللوحة وشاح رمادي كاسح أو أخضر عفني رطب هبوطا كما الحبر في الماء أو صعودا كما في مشهد غريق هادئ تغمره المياه حد نصفه وتهدده بالمزيد، ما نلبث أن نرى تقنية التشفير والترقيم الديجيتالية التي تطور حد تبلور كائنات الذكاء الاصطناعي التي يزداد دخولها إلى عالمنا المعاصر سنة بعد سنة.

هل يعبر الفنان في لوحاته تلك عن التآخي ما بين الجرح وغياب الألم؟ أم يعلن موت الإنسان وقيام الآلة؟ أو ربما هو في منتصف لوحاته تلك يجترح، على الرغم من أجيج ألوانه، الدعوة إلى تجميد اللحظة المفصلية التي يواجه فيها الإنسان مصيره؟ أم هل لوحاته تلك هي دعوة لإيقاف أو إبطاء العد التنازلي نحو تحقق الآلة وموت الإنسان ريثما يعرف هذا الأخير طبيعة الجرف الهائل الذي يقف على حافته مُتغنيا بقواه الخارقة؟

ويُذكر أن الفنان التشكيلي رياض نعمة ولد سنة 1968. درس الفن في بغداد التي غادرها إلى دمشق عام 1997. هناك أقام معرضه الشخصي الأول عام 2000. واشترك الفنان في الكثير من المعارض الجماعية في العديد من البلدان والعواصم ومنها: باريس وبغداد والولايات المتحدة. كما تحصل على جائزة المجلس الثقافي البريطاني في سوريا عام 2000. واقتنت أعماله الكثير من المتاحف العالمية. وله معارض فردية كثيرة في الأردن والعراق وبيروت والإمارات وسوريا وبراغ والكويت.

Thumbnail
14