مخزون ود بين القاهرة وتل أبيب لا يخفي العداء في الإعلام

تسير العلاقات بين مصر وإسرائيل بوتيرة جيدة وهادئة، وشهدت تقاربا سياسيا واقتصاديا وأمنيا، إلا أن ذلك لم ينعكس على المشهد الإعلامي الذي بدا معبرا عمّا تخفيه صور الترحيب المتبادل، والذي يقبع داخله مخزون كبير من العداء.
القاهرة- استهل البرنامج الجديد “عن قرب” عمله على فضائية “دي.إم.سي” المصرية (تملكها جهات حكومية) ويقدمه الإعلامي أحمد الدريني، بتقديم حلقتين وثائقيتين في غضون شهر استهدفتا هز صورة إسرائيل في الوجدان العام للجمهور المصري، حيث جاءت الأولى بعنوان “خطة الخداع الاستراتيجي” بالتزامن مع ذكرى حرب أكتوبر، وعرضت الثانية الثلاثاء باسم “سينما الجواسيس”.
ولعب البرنامج على نفس الوتر الذي يجيده الإعلام الإسرائيلي أو ما يطلق عليه “الدبلوماسية الشعبية” على مواقع التواصل الاجتماعي التي تعتمد على تمجيد الأنا وتشويه الآخر، وركزت الحلقتان على توصيل رسائل تُعلي من قيمة دهاء القاهرة في التعامل مع المراوغات الإسرائيلية بغرض ترسيخ صورة “السوبرمان” المصري في أذهان جيل جديد من الشباب يتابع المنصات الإسرائيلية بغزارة.
ولم يشر البرامج إلى ما يؤكد أنه مخصص فقط للحديث عن إسرائيل، غير أن رسالته كانت حاضرة بقوة في الحلقتين، فقد اهتمت الحلقة الثانية بالأدوار التي تلعبها إسرائيل للتأثير على عقول الشعوب العربية، ما يشي بأن هناك رغبة في تقزيمها وإبعادها عن صورة ترسمها مواقع التواصل لإسرائيل كقوة اقتصادية وتكنولوجية عملاقة.

سهير عثمان: الإعلام المصري يستهدف التأكيد على أن إسرائيل تعد عدوا
وجاوبت حلقة “سينما الجواسيس” على أسئلة عديدة تدور في أذهان البعض من الجمهور، مثل كيف نشأت سينما الاستخبارات؟ وكيف كانت جزءا من الحرب الخفية بين الأمم؟ وهل كان العدوان الثلاثي على مصر دافعا لتخترع المخابرات البريطانية شخصية جيمس بوند؟ ومن هو المسؤول عن إنتاج أفلام الموساد في السنوات الأخيرة؟ وما هي الرسالة التي يوجهها من خلالها للعملاء المحتملين؟
واستجابت الحلقة الأخيرة لتوصيات دراسات عديدة أجراها باحثون في مجال الإعلام خلال السنوات الماضية طالبت الجهات الحكومية في مصر بدعم خطاب إعلامي يقدم فهما عميقا للتفكير الإسرائيلي وطريقة عمل الموساد، ما استدعى أن يكون هناك رد إعلامي مصري بأدوات وأساليب مختلفة عن التي يستخدمها الطرف الآخر.
وشددت دراسة إعلامية حملت عنوان “الدبلوماسية الشعبية وأهميتها في بناء القوة الناعمة للدول” بكلية إعلام جامعة القاهرة على أهمية التعامل مع الحرب النفسية التي تشنها وسائل إعلام إسرائيلية كنوع من الهجوم العدائي المبرمج، وفضح أسلوب التكرار وتشويه الحقائق من أجل إبراز مفاهيم معينة وتصديرها للجمهور المستهدف.
ولا ترتاح جهات مصرية عديدة للحملات الإعلامية التي تقوم بها إسرائيل على المنصات لمخاطبة العقول العربية بعد أن عمدت إلى تدشين صفحات مهمتها خلق صورة مثالية عن طبيعة المجتمع الإسرائيلي، مقابل التقليل من أي تفوق مصري أو عربي في مجالات سياسية أو عسكرية.
واستطاعت صفحات مثل “إسرائيل في مصر” و”إسرائيل تتكلم بالعربية” أو صفحة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي وصفحة وزارة الخارجية جذب الملايين من المتابعين العرب على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولا تتوقف المناكفات اليومية بين المغردين المصريين والقائمين على تلك الصفحات التي تتحول إلى حفلات سُباب جماعية، لكن الخطورة تكمن في أن هناك أجيالا صاعدة قد تتأثر بما تبثه من معلومات كثيفة ومستمرة، وهو ما ظهر في بعض التعليقات التي عبرت عن غياب الوعي وعدم الإدراك الإعلامي الكافي بالحقائق التاريخية.
وقالت أستاذة الإعلام بجامعة القاهرة سهير عثمان إن الإعلام المصري من خلال هذه النوعية من البرامج (عن قرب) يستهدف التأكيد على أن إسرائيل ما تزال تشكل خطرا وتعد عدوا يجب الاحتياط والحذر منه، وأن معاهدات السلام لا تلغي ذلك من أذهان المواطنين الذين قد يتأثرون بالرسائل الإعلامية الإسرائيلية في ظل تراجع مفاهيم الانتماء وغياب الوعي.

ليلى عبدالمجيد: قضية الوعي باتت من الأولويات بعد أن كان الترفيه متصدرا للمشهد
وأضافت في تصريح لـ”العرب” أن تقديم محتوى إعلامي من الأفلام التسجيلية وبرامج وثائقية تأخذ قوالب فنية يستهدف وصوله بسهولة إلى المواطنين أسوة بالأفلام السينمائية والمسلسلات، وأن البرنامج المصري الجديد يتوجه إلى أجيال كبيرة قد لا تكون عاصرت الحروب مع إسرائيل للتأكيد على أنها ما تزال خطرا، وأن الصور المحفورة في أذهانهم من مصادر مختلفة يجب أن ترسخ دون أن تؤثر فيها تطورات العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين.
ويقول خبراء إن اهتمام وسائل الإعلام المصرية يعبر عن الرفض الشعبي للتطبيع مع إسرائيل، وتقديم قوالب جادة تعبر عن الخطر المحتمل، ويؤكد أن الدولة المصرية واعية بكل أدوات تزييف العقول وجادة في مواجهتها من خلال أدوات وأشكال مختلفة تخلق توازنًا مطلوبًا على المستوى الإعلامي.
ومن الملاحظ أن حلقات برنامج “عن قرب” جرت إعادتها على عدة فضائيات مصرية أخرى مملوكة لجهات حكومية، وأولت اهتماماً بعرض الحلقات على منصاتها الاجتماعية عبر تقديمها في شكل فيديوهات قصيرة تجذب جمهور الشباب، ونشرت الكثير من الصحف والمواقع المصرية مقتطفات مطولة من الحلقتين.
ويشير الخبراء إلى أن الإعلام المصري يحاول تصحيح أوضاعه السابقة ويُغير من طريقة سيطرته على الكثير من المنابر بعدما أسهم في تضخيم صورة إسرائيل عندما يحملها مسؤولية أي أزمة أو مشكلة تحدث في الداخل.
وجرى الادعاء بأن الثورة المصرية عام 2011 حركتها إسرائيل، وأن انتشار الكثير من الأمراض بين المواطنين من صنيعتها، كذلك الأمر بالنسبة إلى أزمة سد النهضة الإثيوبي، إذ رددت وسائل إعلام محلية بأنها أسهمت في بنائه لوصول مياه النيل إليها.
وخدمت هذه النوعية من السياسات الإعلامية التوجهات الإسرائيلية التي لعبت على وتر أنها قوة قاهرة تستطيع التأثير في كافة الملفات، وأضحى الإعلام المصري في حد ذاته أداة لبث رسائل يأس لدى الكثير من المواطنين، وهو ما تطلب تغييراً يأخذ في حسبانه التطورات خلال الفترة المقبلة عبر تنويع المحتويات الإعلامية المرتبطة بالرد غير المباشر على الرسائل الإسرائيلية غير المباشرة أيضا.
◄ جهات مصرية لا ترتاح للحملات الإعلامية التي تقوم بها إسرائيل على المنصات لمخاطبة العقول العربية بعد أن عمدت إلى تدشين صفحات مهمتها خلق صورة مثالية عن طبيعة المجتمع الإسرائيلي
وأكدت أستاذة الإعلام السياسي بجامعة القاهرة ليلى عبدالمجيد أن فلسفة رسائل الإعلام المصري شهدت تغيرات مهمة مؤخرا، وأن قضية الوعي باتت على رأس الأولويات بعد أن ظل الترفيه والتسلية متصدرين للمشهد، وهناك إدراك بأن قضايا الأمن القومي بحاجة إلى تعامل مختلف ومكثف للحفاظ على تماسك الداخل.
وأوضحت لـ”العرب” أن القاهرة لا تستطيع منع إسرائيل من استخدام خطاب إعلامي قائم على التزييف أوقلب الحقائق، لكن يمكن أن تقدم محتوى مضادا يفندها، وهو ما يسعى له برنامج “عن قرب”، بجانب زيادة عدد الأعمال السينمائية والدرامية.
وتبدو نقطة الضعف المصرية في هذا الإطار واضحة في غياب التأثير الإعلامي على مواقع التواصل، وعدم وجود خطة متكاملة أو رؤية واضحة لصد المغالطات عموما، وبناء وعي الشباب عبر استخدام لغة تناسبهم.