محمد العلي مفكر سعودي مهموم بالضوء

محمد العلي شاعر حرّ الخيال ما يزال يحلّق بين النجف والأحساء.
الجمعة 2020/08/28
قامة فكرية وشعرية عالية

ما يزال المفكر والشاعر محمد العلي، منذ ما يقارب الخمسين عاما، علما سعوديا ناشرا للوعي، داعيا إليه، عبر خط منوّع، الغلبة فيه للكتابة التي يتحف بها قراءه بين وقت وآخر. لم يتولاه كلل ولا ملل، ولم يردده كبر سن عن حمل أمانة عاهد نفسه على أدائها حتى آخر نقطة حبر. بل قال ذات مرة  “إن أردت أن تعاقبني فامنعني من النشر“، لاسيما وأن كتاباته امتازت بالنهايات المثيرة والخلاقة للأسئلة بما يكتنفها من الرمزية التي يتحفّظ حيالها، مُفضلا تسميتها بـ”الكثافة اللغوية“.

والكثافة اللغوية ليست قناعا للتستر على فكرة أو تمريرها، بقدر ما هي نهج واختزال وجانب أسلوبي، كما يقول العلي عن نفسه ”يحتّم عليّ ألا أكتب شيئا مطوّلا بغض النظر عن كونها تساعد أم لا بقدر حرصي أن تصل“.

أما رفيقه في الثقافة والتنوير الشاعر السعودي علي الدميني فقد قال يوما لمجلة الفيصل الفكرية الثقافية عن العلي ”على رغم أنه لم يشر في أي كتابة أو حوار إلى أنه صاحب مشروع، إلا أننا أمام عتبات مشروع ثقافي لافت ينهض على مقومات معرفية، وعين نقدية قارئة للتراث العربي والثقافة المعاصرة، ومنفتحة على الحداثة، ورؤية جدلية لتحليل الواقع، ورؤيا متشوفة لآفاق المستقبل وملكة ثقافية نقدية تنطوي على قدر كبير من فاعلية الشك المعرفي، وعلى الشجاعة الكافية للتعبير عنها”.

صراع الحداثة

يُعد العلي قامة فكرية وشعرية عالية، ومؤرخا للحركة الثقافية في السعودية والتي يصفها بالمشهد الولود المتجدد المتطور من رؤية. لُقّب بالشاعر الهجري نسبة إلى هجر، بالأحساء، وهي مسقط رأسه في قرية العمران عام 1953، آخذا الشعر في البداية، ومهتما بالحداثة والتي تفرد بها نوعا ما عن الشعر، فأضحى مُقلا فيه، متناولا في كتاباته البحثية ودراساته عناوين تنويرية بشكل عام ومفاهيم وقضايا اجتماعية كالهوية واللغة والوطن والحداثة وما إلى ذلك، وهكذا طغى حضوره كمفكر على حضوره كشاعر.

مشروع ثقافي لافت ينهض على مقومات  معرفية، وعين نقدية قارئة للتراث العربي والثقافة المعاصرة
مشروع ثقافي لافت ينهض على مقومات  معرفية، وعين نقدية قارئة للتراث العربي والثقافة المعاصرة

يأخذك إلى عوالم قصيدة النثر التي يرى أنها تحتاج إلى متلق خاص وإلى لغة خاصة، لتجعلها ذات انفعال هادئ، ولكنه بركاني، وهو الذي كانت له محاولات في كتابتها، متخذا من الشاعر السوري محمد الماغوط قدوة شعرية ومثالا له، إلا أن  المحاولة باءت بتمزيق ما كتب، لتصبح محاولة أولى ووحيدة.

إلا أن رابطا شعريا يجسر تلك الكتابات، وكأن الشعر يقول له ما أنا بتاركك، ستجدني معك أينما حللت بفكرك وكتابتك، لتجعله في مصاف أوائل من دعوا إلى الحداثة، مؤكدا في أكثر من حديث على أن وجودها في طرح الأفكار وفي سلوك الناس، بمثابة مؤشر على تطور المجتمع “فهي ليست شيئا طارئا حتى يزول“، ويزيد بالقول إن “الحداثة انتقال من طور إلى طور، وتحمل بُعدا ثقافيا لا يقف عند المفهوم التراثي، وهي وعي منظور، فالحداثي بودّه أن يكون الناس متقدمين إلى تطور ووعي جديدين”، مبديا استبعاده أن تحمل تعريفا ثابتا “فالحداثة باعتبارها متنقلة ومتصاعدة ليس لها تعريف ثابت“.

يتعمق العلي في وصف الحداثة معتبرا أنها نتاج انفصال من تعبير جماعي إلى تعبير ذاتي، وهي الآن بعد تداخل الحضارات أصبحت تعني ”ألا يسبقك أحد“. أما الحداثي الحقيقي فليس باستطاعته أن يعود، كون الحداثة، كما يرى، درجة من الوعي، والرجوع عنها كارثة مما جعله في متناول سهام منتقديها الذين وصل بعد معاركه معهم إلى استشفاف مفاده “أن من ناهضوا الحداثة هم الآن متأسفون ونادمون، فقط الإشكالية ظهور جيل من بعدهم حمل الأفكار وأصبح يحارب بها وبالتالي أضحى أكثر حدة وشدة”، عائدة به الذاكرة إلى بداية حلول الحداثة في المملكة. يقول إن تلك الظاهرة ”شهدت في بدايتها تصرفات وصراعات  طفولية تجلت في الإلغاء التام، فكان الحداثيون في غياب تام عن توضيح ما يريدون وأبدلوه بتوضيح لما يرفضون، والتيار الآخر، للأسف، أخطأ في محاولة فهم ما يريده الحداثيون، خاصة وأن من أهم صفات الحداثة عدم نفي الآخر“، معتبرا أن الصراع بين التيارات ظاهرة صحية شريطة ألا يعتدي تيار على آخر حتى لا يتحول إلى إرهاب.

بين النجف والأحساء

العلي يمثل ظاهرة حقيقية مؤثرة في بلاده
العلي يمثل ظاهرة حقيقية مؤثرة في بلاده

كان العلي قبلة تواصل واحتفاء محبيه، مغدقا عليهم بفكره وشاعريته وروحه البشوشة الساخرة، يقبلون بحب على طباعة كتاباته المتناثرة هنا وهناك، فعادة العلي ألا يطبع شيئا من كتاباته. وحين سُئل عن ذلك، نظر إلى سائله وأجاب قائلا ”لا أدري“.

ومن الإصدارات التي تكفّل المهتمون بالعلي بطبعها “حلقات أولمبية“ وهي جمع من مقالات في التنوير والحداثة، و”هموم الضوء”، و”درس البحر”، و”نمو المفاهيم: تساؤلات وآراء في الوجود والقيم” وتتضمن أوراقا نقدية ومحاضرات فكرية، وكذلك “البئر المستحيلة: محاولات لتجاوز السائد في الثقافة والمجتمع”، و”لا أحد في البيت”، وأثناء الدورة الأولى من مهرجان الشعر الذي أطلقه بيت الشعر التابع لجمعية الثقافة والفنون في الدمام صدر بمناسبة تكريمه كتاب بعنوان “تلك الزرقة التي علمتنا الأناشيد”.

اكتسب من نخيل العمران شموخ التفكير، فكانت  منسأته التي قادته بعيدا عن التلقين الديني الذي لم يرق له، وبعد أن أجبرته الحياة على الانتقال إلى النجف في العراق بصحبة عائلته، أضحت تلك اللحظة نقطة تحوله، بالاحتكاك مع أسماء أدبية معروفة في الوطن العربي شهدت بواكير حركة التجديد الشعري التي انطلقت من بغداد في الستينات من القرن الماضي، إضافة إلى عدم تجاوبه مع الدراسة الدينية، والتي خسر بسبب عدم اهتمامه بها نفقته من أبيه، متجاوبا بشكل سريع مع نبضات الحياة الجديدة التي بدأت تتشكل في الخارطة الثقافية العربية.

وكان حينها قد بدأ بكتابة الشعر قبل أن يبلغ العشرين من عمره، لكن لم تتجاوز قصائده حتى اليوم الأربعين قصيدة.

كانت عودته إلى السعودية ليعمل مدرسا للمرحلة الثانوية بالدمام بعد أن نال درجة البكالوريوس عام 1962 من جامعة بغداد، ثم أصبح رئيسا لقسم الامتحانات في إدارة تعليم المنطقة الشرقية، وموجها تربويا في الهيئة الملكية للجبيل وينبع في الجبيل، فرئيسا لتحرير جريدة ”اليوم“ والتي كانت سابقا منصة كتاباته ونصوصه ومن بدايته الكتابية، وصولا إلى زاوية يومية أسماها “كلمات مائية” وحاليا زاوية “وقوفا بها” في مجلة ”اليمامة“.

إنسان آخر

يرى العلي أن عوالم قصيدة النثر تحتاج إلى متلق خاص وإلى لغة خاصة
يرى العلي أن عوالم قصيدة النثر تحتاج إلى متلق خاص وإلى لغة خاصة

وقد انتقد العلي، وربما بوحي من تجربته الشخصية، التدريس الديني والاتجاه الذي انتهجه الدِّينيون، وكثيرا ما حمل حديثه الكتابي منحى أصاب الدهشة، سواء في تبيان مصطلحات أو تعريفات رسّخت بمعان معروفة وشائعة.

أما المثقف الحقيقي عنده فهو ذاك الذي يتمتع بالحس الاجتماعي، ومن يتلمس احتياجات مجتمعه ومن يجاهد في تغيير فكره وزرع الوعي فيه من منظوره، ليس هذا فقط بل إن مفردة الجماعة التي وردت في الأثر، يصفها العلي بالمغلوطة، كون الجماعة في مفهومه تعني ما وافق المشترك الإنساني والعقل الأخلاقي والشعور الجمالي لا التبعية المطلقة للكثرة، وليست دوما دليل هداية ورشاد. 

كتب عنه مرة في صحيفة “اليوم” رفيقه الثاني في درب التنوير القاص جبير المليحان متسائلا ”ما الذي يمكن أن يُقال عن رجل بقامة الشاعر المجدد، والناقد، والمفكر الرصين الأستاذ محمد العلي؟ يستطيع الناقد المتتبع لإبداعه، أن يقول بعض ما يستحق، يستطيع الصحافي المتمرس أن يتابع محطات سيرته، وأنا لست هذا أو ذاك، فأنا على قناعة، من خلال المعايشة، بالقدرات الإبداعية، والقيادة المتفردة، لهذا الإنسان وأقول: إن العلي لو كان في بلد آخر، لكان شخصا آخر، إن ما أقصده بهذا القول أن هذا رجل لم يحض بمكانه الطبيعي الذي يبدع فيه، ويمارس قدراته بكل حرية، في أرض الواقع“.

العلي يتعمق في وصف الحداثة معتبرا أنها نتاج انفصال من تعبير جماعي إلى تعبير ذاتي
العلي يتعمق في وصف الحداثة معتبرا أنها نتاج انفصال من تعبير جماعي إلى تعبير ذاتي

ويذكر المليحان أنه وفي أواسط السبعينات قطع ”مئات الكيلومترات من الدمام إلى البصرة لحضور احتفالات جامعتها؛ محمد العلي وعلي الدميني وإبراهيم الغدير، فكانت رفقته معنا مصدر سعادة وإثراء؛ إذ لم نكف طوال الطريق عن النقاش والحوار والقصائد والغناء. إلا أن هذه الرحلة كشفت لي شخصيا التعامل الإنساني والسلوك الراقي، والرفقة المطمئنة، وخبرات الحياة التي تفيض من وجود الأستاذ العلي معنا؛ خاصة ونحن شباب لا نملك الكثير منها“.

يمثّل العلي ظاهرة حقيقية في بلاده، يتلقّف السعوديون ما يكتب، ولا يضيّعون أي فرصة للتعرف على جديده، وحين صدر ديوانه ”لا ماء في الماء“ وهو عنوان مستوحى من إحدى قصائده، نفدت نسخ الكتاب في اليوم الأول.

ورغم زهده في النشر قامت الكاتبة عزيزة فتح الله زوجة المؤرخ محمد القشعمي بجمع قصائده وزواياه الصحافية وحواراته ومحاضراته في كتابين صدرا معا في العام 2005 تحت عنوان “محمد العلي دراسات وشهادات” “محمد العلي: شاعرا ومفكرا، واقعه وفكره ومواقفه”.

12