محمد العتابي شاعر عراقي يهرّب الريح من مدن الحجارة

"العرب تلتقي الشاعر والكاتب العراقي محمد العتابي في حوار حول قضايا الشعر والكتابة للطفل اللذين شكلا عمود تجربته الإبداعية.
الخميس 2019/01/03
الشعر موقف تجاه النفس والآخر والوجود

هناك من يدخل عوالم الكتابة كمشروع متكامل لا فرق فيه بين أجناس الأدب من شعر أو قصة أو لمن يكتب سواء كان طفلا أو غيره، فالأدب أدب في نهاية الأمر. من هؤلاء الشاعر والكاتب العراقي محمد العتابي.

ضمن سلسلة نبوءات أصدرت منشورات تكوين في الكويت مؤخرا المجموعة الشعرية “هروب الريح من مدن الحجارة” للشاعر العراقي محمد العتّابي، وتأتي هذه المجموعة متزامنة مع مجموعته القصصية للأطفال بعنوان “كل شيء سيكون على ما يرام” عن دار الحدائق  ببيروت، وقد أصدر العتابي قبل هذين الكتابين ديوان “باب يحدق في عيني” سنة 2015 عن منشورات ضفاف. إصدارات رسخت تجربة العتابي كواحد من الأصوات الشعرية العربية المختلفة في أسئلتها وفي تجربتها الشعرية الممزوجة بين الغربة والوطن.

الهروب الشعري

قسّم العتّابي مجموعة “هروب الريح من مدن الحجارة” إلى ثلاث نبوءات، متخذا من كل نبوءة منصة كونية للدخول في عوالم الشعر، لكنه دخول أشبه ما يكون بالهروب، كما يعبّر عنه عنوان المجموعة.

وفي هذا السياق يرى العتابي أن “الشعر نبوءة، نبوءة تُثقل صاحبها، ولادةٌ أخرى في الحياة، كأن تشعر بمخاضك وأنت تحمل كل هذا الوعي بالوجود، هذا لوحده يجعلك غريباً حدّ الرحيل، لذا جاءت المجموعة الشعرية في ثلاث غربات، أولى وثانية وثالثة، في كل غربة كنت أكتب اغترابا عشته أو لا أزال، الغربةُ مثل الماء تُشكلها القوالب، تعتريك في لحظة وتظنّك رحلت عنها أو ربما غادرتك، لكنها هناك تتربص بك، في كل فصل كتبت عن غربة مختلفة، المكان الذي يترك في روحك وشما لا تذكره، معناك الذي يُطاردك في الدروب، وهمك في كل ما تفعل أو جدواك، التشظي الأخير الذي يُنبئكُ بالارتحال الأخير. أظنُّ أن الهروب في نهاية الأمر إلى اتجاه ما، وكل الاتجاهات تقود لوجهة واحدة نحاول الهرب منها كل مرة، يُقال إن فقد الأحبة غربة، الفقد يومي، الغربةُ أزلية”.

ويقول العتّابي متحدثا لـ”العرب” عن مناخات مجموعته الشعرية الأخيرة “تأتي مجموعتي ‘هروب الريح من مدن الحجارة‘ في إطار ما يُعرف بـ‘المشروع الشعري‘، أي أن يتناول الديوان كله موضوعا ما أو أن يتسم بثيمة معينة، وهي تجربة قام بها شعراء كثيرون، وأظن أن الاتجاه لهذا المنحى، وإن كان من ناحية فنية مقصوداً، ينطلق من انشغال الشاعر بهاجس ما لا يُفارقه، شعور يسيطر عليه، تُحاصرك القصيدةُ فلا تجد سواها لتنجو من كل هذا التشظي، كان لدي تصور مغاير لما ستكون عليه مجموعتي الشعرية الثانية، لكنَّ لحظة تُشبه حالة الذهول بين رصيفي ميناء غمرتني بالشعر، أعادتني لما تفعله القصيدة فيّ، أن أبحث عن نفسي، أن أقول ما لا أقوله في اليومي من الأمور، أن أحدّث نفسي بالوقوف وإن اعتادت الهرب، كانت الغربة بابا هجرته فدقّ نوافذي كلها، كان هذا العمل موقفا تجاه هربي، الذي لا أعلم إلى أي باب سيفضي، قبل كل شيء”.

هذه المداخلة الشعرية التي ساقها العتّابي بمزاج عال دفعتني إلى التوقف معه حول الشعر، ومدى قدرته على أن يغيّر واقعنا، أو أن يخلق أسطورة جديدة في زمن الحرب والقتل ورائحة الدم اليومية.

الشعرُ هو حالة التساؤل مع نفسك، رؤيتك إلى الآخر من خلالك أنت، إعادةٌ لتسمية الأشياء واكتشاف جديد
الشعرُ هو حالة التساؤل مع نفسك، رؤيتك إلى الآخر من خلالك أنت، إعادةٌ لتسمية الأشياء واكتشاف جديد

يعلّق العتّابي “دائما ما أستذكر ما قاله الراحل الكبير ممدوح عدوان في كتابه دفاعا عن الجنون ‘‏الشعرُ يؤكد لنا أننا نبكي لأننا لم نتعود الذل، وننزف لأننا لم نمت، ونغضب لأننا لم نتأقلم مع الظلم، إنه يذكرنا أننا بشر‘. الشعرُ هو حالة التساؤل مع نفسك، رؤيتك إلى الآخر من خلالك أنت، إعادة لتسمية الأشياء، اكتشاف جديد للعلاقات التي لا نراها، كل ذلك يمنح الشاعر رؤية لهذا العالم، موقفا تجاه كل ما هو قبيح ومذل من حوله، عندما أقول موقفا لا أعني بالضرورة أيديولجيا أو منظومة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية .. إلخ، بقدر ما أعني موقفا تجاه النفس والآخر والوجود، ولا حتمية في وجود تناقض بينهما، وجّه أحد النقّاد المعروفين نقدا لاذعا لسهراب سپهري الشاعر الإيراني المعروف ‘بينما تقصف أميركا فيتنام وتقتل البشر هناك، أكنت قلقا بشأن سقي حمامة؟‘، جاوبه سهراب بأن أصل القضية هنا، من لا يأبه للحمامة، من لا يحمل في قلبه العطف وفي روحه المحبة لن يأبه للبشر. إجابة على السؤال، فالشعر وإن لم يستطع ماديا أن يوقف هذه الحروب وكل القتل والدمار، فهو بلا شك قادر على أن يقول لا، أن يصرخ بصوت من هُجروا على الطريق، أن يبكي على من كان عزاؤهم شريط أخبار عابرا”.

الكتابة بين بلدين

أصدر شاعرنا قصة للأطفال بعنوان “كل شيء سيكون على ما يرام”، ولا شك أن الاشتغال على “أدب الطفل” منطقة في غاية الصعوبة، حيث تحتاج إلى عمل مضاعف، وإلى ذاكرة تستخلص من العالم ما يمكن أن يثمر في أرواح الأطفال جانبا مشرقا يخفف عليهم ظلمة المشهد العربي من حولهم.

وعن تجربته في “أدب الطفل” يقول العتّابي “دعنا نستوضح إشكالية مهمة هنا، الكتابة للطفل لا تعني بالضرورة المرحلة العمرية، نحن أحيانا نكتب للطفل الذي لم يكبر بعدُ فينا، لطفولة الفكرة، للدهشةِ الأولى، نحتاج أن نرتحل أحياناً إلى البدايات حيث الصفحة البيضاء التي تستوطننا ونسكنها. أرى وجوه شبه عديدة بين الروح التي نكتب بها القصيدة مع أدب الطفل، كشف لما أنت عليه، محاولةٌ للتعرف على المجهول الذي يفتح لك أبوابا ونوافذ لا نهائية. أحب أن أكتب قصة للأطفال بنفس الاختزال والتكثيف ذاته في الشعر مع اختلاف اللغة والأسلوب. عالم الطفل هو العالم الذي لا يُغادرك وإن ظننت أنك رحلت عنه، هو الفضاء الذي تبحث عنه حينما يضيق الأفق بك”.

العتّابي من مواليد 1989 في العراق، عاش غالبية عمره في الكويت، حيث أقام فيها أكثر من 20 عاما، الأمر الذي يجعل منه حلقة ثقافية مهمة في فهم النسق الثقافي بين جيل عربي كامل يسكن الكويت والعراق.

وفي سؤال له عن الحواجز الإدارية التي يفرضها جواز السفر بين المثقف الكويتي والعراقي، وإلى أي حد ربما تكون غائبة أو موجودة، فبحكم القرب الجغرافي فإن مثقفي العراق على تواصل تاريخي بمثقفي الكويت، كيف تقرأ هذا التواصل بعد الربيع العربي؟

يجيب “بلا شك أن العلاقات العراقية الكويتية مرّت بأزمات عاصفة خاصة بعد قيام نظام صدام بغزو الكويت، وكما جرت العادة من يدفع الثمن في نهاية الأمر هو الشعب، في فترة التسعينات تسللت مشاعر الكراهية التي امتدت، للأسف الشديد، بين الشعبين نتيجة دعايات سياسية محضة استغلت ظروفا قاسية مرّ بها الشعب الكويتي جرّاء الغزو، والعراقي نتيجة للحصار”.

ويضيف “تاريخيا، وقبل هذه الحقبة، فإن ما يجمع العراق والكويت حقيقة أكبر مما يفرقهما، هنالك تاريخ مشترك وثقافة متشابهة وعلاقات أسرية متشابكة، بعد الـ2003 اختلفت الأمور، تدريجيا عادت العلاقات حتى على المستوى الشعبي والثقافي، الدفء عاد مرة أخرى في جسد البلدين الواحد، شخصيا أحمل مزيجا من ثقافتي العراق والكويت وهذا اللقاء شكل هويتي الثقافية والفنية”.

15