محاكمة الفن على أساس المعايير تأبيد للواقع وتجميد للتاريخ

لقد قارب العديد من المفكرين المتنورين الخطاب التحريمي للفنون، ووقفوا على جذوره، وكانت أطروحة نصر حامد أبوزيد أكثر عمقا من أطروحات أقرانه، ففيها يتساءل: لماذا يسبب الفن فزعا لخطاب التحريم، ويحاول محاصرته ومصادرته؟ ويجيب على تساؤله بأن الفن هو المجال الأخصب لممارسة الحرية، وحين تصبح المجتمعات فزعة من الحرية يكون الفن ضحية هذا الفزع، ذلك أن ممارسة أقصى مستويات الحرية، يمارس الإنسان فيه أقصى درجات التحرر من قيود الجسد في الرقص، من قيود الرتابة في الموسيقى، من قيود المادة في الفن التشكيلي، ومن قيود اللغة التداولية في الشعر والأدب.
الخلط الضار
يرى أبوزيد أن إنسانية الإنسان في علاقته بالكون تتحقق في الفن، حيث يستعيد ذاته من غربته التي فرضتها الثقافة بمفاهيمها وأعرافها ومؤسساتها وقيمها. وفي الفن وحده يتحرر الإنسان ليعيد بناء عالمه ويطوّر ثقافته.
لقد وضع أفلاطون “الحقيقة” في “عالم المثل”، وعدّ الواقع تشويها لها بما هو صورة انعكاسية لعالم المثل. وبما أن الشاعر يتخذ مادته الشعرية من الواقع، الذي هو صورة مشوّهة للحقيقة، فإن الشعر يصبح تشويها مركّبا للحقيقة. هكذا لم يميز أفلاطون بين مستويات “الحقيقة” وتجلياتها المختلفة، فهناك “الحقيقة الفلسفية”، و”الحقيقة الاجتماعية”، و”الحقيقة السياسية”، و”الحقيقة الثقافية”، و”الحقيقة الدينية”، و”الحقيقة الفنية”.
هناك صلة عضوية بين الدين والفن كما يتجلى في فن العمارة وبناء المعابد والكنائس والمساجد وفي الخطابات الدينية
كل هذه الحقائق لا تتماثل وإن كانت تتقاطع وتتفاعل. مشكلة أفلاطون أنه جعل من “الحقيقة الفلسفية” معيارا للحكم على الشعر. لكن أرسطو انتبه إلى الفارق بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الشعرية باكتشافه وظيفة الشعر -الدراما والكوميديا على السواء- بأنها “التطهير” عبر إثارة الانفعالات. ليست مهمة الشعر أن يعكس الحقيقة الفلسفية التي يمكن التوصل إليها بالفكر، إنما يقوم الفن بوظيفة “التطهير” الإنساني، فيرى الإنسان عالمه بشكل أكثر براءة.
عن النحاة واللغويين، الذين تتبعوا الشعراء، في ما عدّوه أخطاء، يذهب أبوزيد إلى أنهم كانوا يتحولون أحيانا إلى حراس للقواعد التي استنبطوها من استقرائهم لغة الكلام والتواصل، اللغة العادية، من دون إدراك لمسألة جوهرية هي أن في لغة الشعر كسرا لقواعد هذه اللغة العادية من أجل تجاوز إطارها المعرفي إلى آفاق جمالية ومعرفية تأبى قدرة تلك اللغة العادية على حملها.
يستنتج أبوزيد من ذلك أن ثمة دائما علاقة توتر بين المعياري والفني على كل المستويات. محاكمة الفن على أساس “المعيار”، سواء أكان المعيار لغويا أم أخلاقيا أم فلسفيا أم دينيا، هو خلط للمعايير وخلط للحقائق: وهو خلط ضارّ بالفن، ويشكّل أساس التحريم في كل الخطابات التي تسعى إلى تأبيد الواقع وتكره التغيير، أي تريد أن تجمد اللحظة التاريخية، السياسية الاجتماعية الثقافية الفكرية، وتجعلها “أبدية”.
تجريف العقل
أما في ما يتعلق بموقف الإسلام من النحت والتماثيل، فقد جاء، كما هو معروف، دعوة ضد الوثنية والشرك، ومن هنا كان الحرص على تحطيم التماثيل في الجزيرة العربية، لكن العرب لم يفعلوا ذلك في البلاد التي فتحوها، لأنهم كانوا مشغولين بإقامة الإمبراطورية، التي تحتاج إلى التعايش ومد جسور الثقة مع الثقافات الأخرى في البلاد المفتوحة، وإلا ما احتفظت المعابد المصرية ولا المعابد البوذية بتماثيلها.
أبوزيد يكشف عن الصلة العضوية بين الدين والفن، مشيرا إلى فن العمارة، كما يتجلى في بناء المعابد والكنائس والمساجد
واليوم، كما يرى أبوزيد، لا خوف على المسلمين من العودة إلى الشرك، فلا مجال للتحريم. ويدعم رؤيته هذه بما قاله محمد عبده وآخرون في بداية القرن العشرين، فقد أفسحوا المجال للإبداع الفني المصري في مجالي التصوير والنحت، “هكذا أبدع محمود مختار تمثال «نهضة مصر»، وهكذا تبرع فلاّحو مصر من قليل قروشهم لإقامة تماثيل للزعيم سعد زغلول بعد وفاته في كل مديريات (محافظات) مصر المحروسة”.
في هذا السياق أيضا يكشف أبوزيد عن الصلة العضوية بين الدين والفن، مشيرا إلى فن العمارة، كما يتجلى في بناء المعابد والكنائس والمساجد، حيث الفخامة والجلال. وفي الفضاء الداخلي بضوئه الناعم وضمان امتداد الصوت في كل الأرجاء، حرصا على وصول صوت الواعظ والقارئ إلى المصلين (قبل اختراع مكبرات الصوت، التي لا يزال معظم الكنائس الكبرى في العالم لا تستخدمها). هذا إضافة إلى النقوش الملونة التي تزخرف زجاج النوافذ فتزيد الضوء نعومة.
وعلى الرغم من أن “التشخيص” لم يكن شائعا في الثقافة العربية، بسبب ظروف موضوعية، فإنه لم يكن كذلك في الثقافة الإسلامية. وثمة اليوم خلط شائع بين الثقافتين العربية والإسلامية، فهما ليسا أمرا واحدا، بل إن العرب أصبحوا اليوم أقلية في الإسلام.
يخلص أبوزيد في أطروحته إلى أن الدين حياة، بالمعنى الشامل للحياة، وأنه يصعب على المرء تصوّر حياة بلا فن، لأنها ستكون خواء بلا معنى، وثمة علاقة عضوية بين الدين والفن، والخلل دائما يكمن في الفهم القاصر للدين. وقد كانت للفن مكانة كبيرة في الحضارة الإسلامية، فالصلوات والابتهالات هي نصوص أدبية وصياغات لغوية وموسيقية، كما أن الخط العربي والأرابيسك هما تصوير في الأساس. لكن مكمن الداء في مجتمعاتنا العربية هو “الاستبداد” الذي تمارسه قوى تظن أنها تملك الحقيقة المطلقة، في حين أن الاستبداد وغياب الحرية يؤديان إلى “تجريف العقل” وجعله يتوقف تدريجيا عن التفكير، ومن ثم يحتاج في كل خطوة إلى مرشد يوجهه، وفتوى يتحرك على أساسها. كما أن هذا التجريف للعقل يحوّل الدين وقودا يحترق لتدور عربة السياسة.