مجلس الإعلام المصري يرسخ سلطته بفرض العقوبات لوقف الانفلات

القاهرة - بدأ مجلس تنظيم الإعلام في مصر، المسؤول عن متابعة أداء وتنظيم عمل المؤسسات الإعلامية، التحرك في اتجاهات مختلفة لإيجاد حلول مهنية لما يوصف بـ”التجاوزات والانتهاكات” التي ترتكبها بعض وسائل الإعلام، من خلال فرض عقوبات جديدة والتلويح بمحاسبة كل منبر يخرج عن النص أو يرتكب مخالفة مهنية لا تتسق مع مواثيق الشرف الإعلامي.
ويركز المجلس، الذي جرى اختيار رئيس وأعضاء جدد له مؤخرا، على إيجاد حل لفوضى بعض البرامج والصحف والمواقع الإلكترونية، للإيحاء بأن فترة الانفلات ولّت دون رجعة، وأن المرحلة المقبلة عنوانها الانضباط والالتزام، ومن يخالف ذلك سوف يتعرض للمساءلة، سواء أكانت الوسيلة تابعة لجهات حكومية أو مملوكة لكيان خاص، وهي رسالة بأن المجلس يملك صلاحيات تجعله قادرا على ضبط المشهد.
وأعلن مجلس تنظيم الإعلام توقيع غرامة مالية بقيمة 250 ألف جنيه (نحو 5 آلاف دولار) على موقع “القاهرة 24” الإخباري، بسبب مخالفته للنظام العام والآداب، من دون أن يُفصح عن هوية المخالفة، حيث كان الموقع تعرض للحجب الجزئي لعدة أيام وتقدم مسؤولوه بتظلم من أجل إلغاء العقوبة المالية، لكن المجلس رفض وتمسك بموقفه كرسالة ترهيب لباقي المؤسسات الإعلامية.
وفي مخالفات أخرى لم يسمّها، استدعى المجلس ممثلين قانونيين لفضائية النهار وقناة “إي.تي.سي” وموقع الشروق الإخباري، لإبداء الإيضاحات وتقديم المستندات اللازمة بشأن ما تم رصده من مخالفات للضوابط والمعايير والأكواد المنظمة لممارسات المهنة، مفسرّا ذلك بأنه “يستهدف حماية حق المواطن في التمتع بإعلام نزيه ومهني.”
وبعد أن كانت المخالفات المهنية تُكتشف من جانب الجمهور ثم تتحول إلى قضية رأي عام على مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت لدى مجلس تنظيم الإعلام “إدارة عامة للرصد”، مهمتها متابعة التزام المؤسسات الإعلامية المختلفة، بالضوابط والمعايير المهنية، بحيث تم اتخاذ إجراءات استباقية ضد المخالفات ومحاسبة المتورطين.
وتشير تحركات مجلس تنظيم الإعلام إلى أنه يحاول التسويق لامتلاكه خطة إعلامية جديدة، تبدأ من تفعيل العقوبات كأداة لضبط المنفلتين، في رسالة غير مباشرة بأنه يتمتع بصلاحيات كاملة لإنهاء الفوضى الحاصلة في المشهد الإعلامي، وأن العقوبات التي تصدر لن تفرق بين وسيلة لها نفوذ أو أخرى ليست مدعومة.
ويفترض أن فضائية النهار، مملوكة لإحدى الجهات الحكومية وتتمتع بحماية نسبية من المحاسبة، لكن مجلس الإعلام اتهمها بشكل غير مباشر بمخالفة الضوابط الإعلامية، وهو ما لم يكن يحدث من قبل، حيث كانت بعض المنابر بعيدة عن المساءلة لمجرد أنها تابعة لشخصيات أو جهات شبه رسمية، وكانت تتم التغطية على بعض الخروقات من المجلس القديم.
ويرى متابعون أن البدايات الأولى لمجلس تنظيم الإعلام توحي بأنه مكلّف بتعميم المحاسبة على جميع المنابر بلا استثناء، ولديه صلاحيات مطلقة للتشدد في مواجهة المؤسسات التي اعتادت خرق المعايير المهنية في غياب المساءلة، استنادا إلى أنها تتمتع بحصانة، ما عمّق الفوضى الإعلامية وجعلها أقرب إلى حالة شبه عامة.
تحركات مجلس تنظيم الإعلام تشير إلى أنه يحاول التسويق لامتلاكه خطة إعلامية جديدة
ويبدو تلويح المجلس بتفعيل عقوبات مخالفة الأكواد الإعلامية للمخالفين مهمّا ومطلوبا في هذا التوقيت، لكن العبرة في قدرته على تطبيقها كرسالة ردع للجميع، فهناك مذيعون تم وقف برامجهم وعادوا وكرروا الأخطاء نفسها بذات المنابر، حتى أصيب الجمهور باليأس من إمكانية أن يأتي الوقت الذي تنتهي فيه الفوضى الإعلامية.
وحاول مجلس الإعلام، بتشكيله السابق برئاسة كرم جبر، أن يوقف فوضى بعض المنابر الإعلامية، لكن لم يكن يُسمح له بالتدخل بأريحية لتطبيق المعايير المهنية وفرض الأكواد ومواثيق الشرف على الجميع، وكثيرا ما واجه إشكالية مرتبطة بالجهة المالكة للقناة أو الصحيفة، لأن ثمة مؤسسات معروفا عنها في الوسط الإعلامي أنها أقوى نفوذا من المجلس نفسه.
كما أن تحرك مجلس تنظيم الإعلام الجديد برئاسة خالد عبدالعزيز مؤخرا يعبر عن انتفاضة من دوائر حكومية ضاقت ذرعا من اهتمام بعض الصحف والقنوات والبرامج بمناقشة موضوعات مثيرة على حساب القضايا الجادة التي تمس صميم اهتمام الدولة والناس، ولم يعد مقبولا أن تكون الموضوعات الأكثر مشاهدة وجماهيرية مرتبطة بأحداث شاذة بما يُكرس تغييب الوعي المجتمعي.
وكانت هذه السياسة مقبولة عند الحكومة في أوقات ماضية، كمحاولة لإلهاء المواطنين عن التركيز في السلبيات، لكنها مع الوقت جلبت نتائج عكسية في ظل تنامي الشعور بأن أخبار الإثارة تغطي على إنجازات الحكومة، بينما القضايا المرتبطة بالتحديات الأمنية والسياسة مهمشة، ويتركز النقاش على ملفات مصدرها شبكات التواصل.
البدايات الأولى لمجلس تنظيم الإعلام توحي بأنه مكلّف بتعميم المحاسبة على جميع المنابر بلا استثناء
وأبدى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي سخطه كثيرا من الانجذاب الإعلامي إلى قضايا بعيدة عن صميم دوره كمنبر للوعي والتأثير الإيجابي، في ظل التحديات المتراكمة على الدولة داخليا وخارجيا، وهو ما يفسر تحرك مجلس الإعلام أخيرا لوقف الفوضى كمحاولة لترميم الفجوة بين الشارع والوسيط المفترض أن ينقل نبض الناس لصانع القرار، وهو الإعلام.
وقال أستاذ الإعلام السياسي بجامعة القاهرة صفوت العالم إن عدم التصدي للخروقات يجعل كل الأطراف خاسرة، وضبط إيقاع المنظومة يتطلب إرادة قوية لتكون المحاسبة للجميع، ولم تعد هناك رفاهية من الوقت لتطبيق مواثيق الشرف بصرامة، ومن المهم عدم اختزال الحلول في العقوبات، لأن هموم المهنة متشعبة وتحتاج إلى تشريح بحلول قابلة للتنفيذ.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن رصد المخالفات الإعلامية والمحاسبة عليها جزء من ضبط المنظومة، ومهم وجود رسالة ترهيب ضد كل من يخالف الأعراف والمواثيق المهنية، لكن الأهم مراجعة السياسة الإعلامية برمتها وإتاحة المعلومة بسهولة، مع وجود هامش جيد من النقد، لأن ذلك يفيد صانع القرار، ولا يعني عدم توافر المعلومات أن تغرق بعض المنابر في التجاوزات.
وهناك شبه اتفاق بين العارفين بأمور مهنة الإعلام في مصر على أن إصلاح المنظومة ليس مهمة صعبة أو مستحيلة، ومن الضروري توافر إرادة حكومية ومنح صلاحيات لجهة واحدة لتكون المسؤولة عن تكريس المهنية، مع وضع سياسة إعلامية واضحة المعالم تقوم على إقرار حرية تداولة المعلومات، والسماح بحرية العمل من دون تضييق، وتوسيع قاعدة تصعيد الكفاءات، وإقصاء الدخلاء.
وإذا كانت التحركات الأخيرة لمجلس تنظيم الإعلام هي محاولة لإثبات الوجود بوضع بصمة إيجابية تؤسس لتغيرات مرتقبة، فعلى الحكومة إدراك أن المجلس لن يُصلح المنظومة في غياب الدعم القوي من الجهات المسؤولة في الدولة، ليكون قادرا على الإصلاح بأياد حرة، خاصة أن تشكيلة مجلس الإعلام الجديدة تضم عناصر تتمتع بكفاءة وتملك رؤية للتطوير شريطة تركها تعمل بحرية واستقلال.