مجسم رديء يستعيد أطلال الفن التوتاليتاري

على أطلال فن الوهم التوتاليتاري/ الترويجي ارتفع مجسم تذكاري للإيراني قاسم سليماني في فضاء لبناني عام، ليتوجّه إلى ذاته قبل توجّهه إلى جمهوره، تماما كما توجّه كل فن توتاليتاري إلى آذان وعيون صانعيه قبل توجّهه إلى مُتلقيه.
والفن التوتاليتاري أو الشمولي هو باختصار شديد، الفن الذي حاول السيطرة على كل جوانب الحياة الاجتماعية بما في ذلك الاقتصاد والتعليم والفن والعلوم والحياة الخاصة وأخلاق المواطنين.
من أجواء هذا الفن البائد ذكرت المواقع الإخبارية أن “حزب الله” أزاح الستار عن مجسم خشبي يجسد سليماني، وهو يشير بإصبعه نحو الحدود اللبنانية الإسرائيلية وإلى أراضي الجليل المُحتلة وخلفه العلم الفلسطيني، وذلك في بلدة مارون الراس. ومن نافلة القول إن أرباب النصب أرادوا عبر وضع العلم الفلسطيني مرفرفا إلى جانب النصب أن يعبّروا عن توسّع حدود نفوذ النصب، ليطال أهل فلسطين المُحتلة معتبرا إياهم، وبلا جدال، جزءا من جمهوره المنضوي تحت شفاعة جناحه.
المجسم أقيم بعد مقتل قاسم سليماني في ضربة جوية أميركية، لرفع معنويات جمهور الحزب الضيق الذي تلقى ضربة قوية بموته
وانتشر على مواقع التواصل مقطع فيديو يوثّق لحظة إزاحة ستار النصب. وقد سبّب انتشار الفيديو والصور موجة عارمة من الاستياء. فالبعض اعتبره استغلالا واضحا للقضية الفلسطينية ومحاولة عبثية تثير السخرية لتحسين صورة قائد عسكري شارك في تهجير آلاف المدنيين في سوريا والعراق.
أما البعض الآخر فقد وجد فيه تحديا لهوية لبنان العربية من جهة، وانتقاصا من كرامته عبر الإشهار بالولاء لإيران، وهو أمر ترفضه الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
كما جاء هذا النصب في زمن يتوجّه فيه الفن بشكل عام إلى خلاف ذلك، إي إلى التعبير عن خصوصية الفنان وتميز أسلوبه الفني واستثنائية مشاعره وأفكاره المطروحة.
وما زاد من عبثية إقامته، هو أنه من ناحية، مشغول بأسلوب فني بائد خارج من زمن الفن التوتاليتاري الذي لطالما ادّعى بأنه فن واقعي. ولكنه في حقيقته إما نكّل أو لم يعترف بأي عمل، إلّا إن كان تجسيدا لجهة نظر النظام الحاكم والترويج له ولمبادئه التي غالبا ما كانت مبادئ واهية وجذابة وفضفاضة ادّعت صالح الشعب.
ومن ناحية ثانية، ظهرت هذه العبثية مرتبطة بتوقيت إقامته في عزّ الثورة اللبنانية التي تصارع لحماية ذاتها من القمع، وتُتابع في الوقت ذاته العمل على بلورة هوية وطنية جديدة تمحو الطائفية والولاء إلى الخارج، وتفضح وتعاقب الفاسدين الذين مارسوا إرهابهم طويلا على البلاد.
وإلى جانب ما أعلنه هذا النصب سياسيا، حضر الشقّ الفني من خلال هذا المنطق: بما أن جمهوري شمل كل الوطن، فهذا يعني أيضا أنني استوليت على ميوله الفنية، لذلك كان لي الحق في أن أنصب في مكان مُشترك وعام.
اختصر هذا المجسم، الفن الهابط من خلال كونه نسخة مستنسخة غير مُبدعة لمئات من النصب التذكارية التي انتشرت في زمن الستالينية والنازية والشيوعية. تماثيل لاقى معظمها الساحق مصيره في المتاحف التاريخية وليس الفنية.
وأعلن من الناحية الاجتماعية أن جمهوره الشامل هو أولا، خاضع لصورة الزعيم، الوصي الوحيد على مصلحته. ومن ناحية ثانية، أعلن بوضوح أنه يحضّ جمهوره إلى مُمارسة ما يشبه شعائر العبادة للشخصية التي يجسّدها ويمثّلها، وهي قاسم سليماني الذي “لا يموت”.
مجسم قاسم سليماني في لبنان، اختصر الفن الهابط لمئات من النصب التذكارية التي انتشرت في زمن الستالينية والنازية والشيوعية
هكذا يجيء النصب تكريسا لذكراه في وجدان الجمهور الوهمي بشموليته، وتأكيدا على قدوم الزمن الذي سينتصر فيه الحق المتمثل في بطلهم الخالد هذا، على كل ما هو ليس عليه، وله، ومنه.
وهيئة المجسم التي تنتمي انتماء تاما إلى الفن الشمولي الذي يريد إعلاء شأن من يصوّره إلى أقصى حد مُمكن، تشي عكس ما أراده أرباب النصب. إنها تشي بالضعف أكثر ممّا تعبّر عن القوة. فالمجسم أقيم بعد مقتل قاسم سليماني في ضربة جوية أميركية، لرفع معنويات جمهور الحزب الضيق الذي تلقى ضربة قوية بموته.
إنه فن مأساوي لعبثيته ولتعثّره في وحول الوهم الجماعي وريائه المؤدلج. فن شمولي المنطق والمظهر اخترع عبره أرباب النصب، سليماني البطل الخالد والشامل والمُستمر بعد مماته في إنقاذ اللبنانيين رغما عنهم، والمصرّ على تحرير فلسطين بمعزل عن وعلى غفلة من أهلها.