متحف سرسق اللبناني يغادر برجه العاجي بمعرض "أنا والمدينة"

ضمن انطلاقته الجديدة التي لم تبدأ فعليا بعد، يحضر متحف سرسق اللبناني ضمن معرض جديد بعنوان “أنا والمدينة” وفيه يعرض فنانون لبنانيون أعمالهم المتنوعة والتي تبرز علاقتهم بالمدينة، أي مدينة بيروت التي ترزخ تحت الأزمات لكنها تظل كما هو المتحف الشهير نابضة بالحياة لا تعيقها المشكلات عن دعم الحراك الفني والثقافي والارتقاء بالنفس البشرية.
حين يُذكر تعبير “متحف فني” أول ما يتبادر إلى الذهن مكان واسع وفخم يضم أعمالا لفنانين عالميين ينتمون إلى قرون ماضية أو هم فنانون مشهورين فارقوا الحياة منذ سنوات عديدة.
وليس متحف سرسق اللبناني الواقع في منطقة بورجوازية بخارج عن هذا المنطق. بل على العكس فالأكثرية الساحقة من اللبنانيين اعتادوا أن ينظروا إلى هذا المكان على أنه أشبه بـ”الغيتو” الذي يحكمه منطق النخبة والتعالي على عامة الشعب ويتقوقع في محيطه الضيق متجاهلا ما هو خارجه.
وتكمن المفارقة أن كل الأعمال الفنية منذ بداية الرسم هي أعمال تعكس أو تخرج من صلب هواجس إنسانية لا تقصي مواضيعها الطبقة الفقيرة أو المتوسطة من الشعب التي هي الأعمال الأكثر تأثرا وتفاعلا مع ما يحدث من حولها.
وباختصار شديد نذكر أن المتحف أقامه سنة 1912 نقولا إبراهيم سرسق وهو رجل أعمال وتاجر محبّ للفنون. مبنى عريق يطغى على خارجه اللون الأبيض الناصع ويدمج الطرز الإيطالي بالطراز العثماني. ومن المعروف أنه أوصى بنقل ملكية قصره وكل محتوياته إلى بيروت، شرط أن يصبح متحفا فنيا ضخما.
وهذا ما جرى سنة 1961 بعد عدة سنوات من مفارقته للحياة. لم يتوقف المتحف عن نشاطه الفني حتى اندلاع الحرب الأهلية وتعمق الشرخ ما بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني.
أهم ما يقال في هذا الأمر إن تاريخ المتحف منذ نهاية الحرب الأهلية إلى اليوم حافل “بالمتهدجات” إذا صح التعبير وصولا إلى موجات من التوقف عن النشاط الفني والعودة إليه لأكثر من سبب. غير أن أكثر الاضطرابات التي أصابت المتحف تكثف حدوثها بين أواخر سنة 2019 وصولا إلى اليوم.
والأسباب معروفة ولا داعي للاستطراد فيها: الإغلاق لأجل تجديده وتوسعته ثم الثورة اللبنانية التي أوقفت معظم النشاطات الفنية ثم انتشار وباء كورونا المستجد التي تزامنت نهاية انتشاره مع أزمة اقتصادية خانقة، وصولا إلى انفجار مرفأ بيروت الذي تسبب بأضرار جمةّ بالمتحف، الذي لا يبعد أكثر من كيلومتر واحد عن موقع الانفجار، ودمر العديد من الأعمال الفنية ووُضِع قسم كبير منها تحت الترميم في فترة حدوث الانفجار.
يُذكر أن المتحف كان يقيم معرضين، أحدهما ضمّ 26 لوحة لجورج داود قرم، والثاني ضم أكثر من 100 عمل لـ21 فنانا تشكيليا، من بينها لوحات تنتمي إلى مجموعة المتحف الدائمة.
في العودة إلى المعنى التقليدي لكلمة متحف التي ذكرناها آنفا أذكر أنني أكثر من ثلاث مرات مررت بالمتحف في وقت تقديمه لمعارض فنية، كانت الأبواب دوما مقفلة. وفي إحدى المرات صادفت ناطورا سألني إن كان لديّ موعد للدخول.
ويُذكر في هذا السياق أن حتى الجوائز التي كانت تقدم لفنانين كان الكثير من المعنيين بشؤون الفن يعتبروها جوائز تعطى وفق معايير لا تنمي إلى الفن وحده. أما الآن فيبدو أن متحف سرسق على عتبة تغيير مهم في تاريخه: لم يعد مهتما فقط بترميم الحجر والتحديث التقني فقط والعرض لفنانين مكرسين لبنانيا وعالميا بل أصبح معنيا بالانفتاح على عامة المهتمين بالفن وعلى الفنانين الذين هم في بداية حياتهم الفنية.
ويبدو أن انفجار بيروت صدّع جدرانه/أسواره مُبدلا منطق العرض والنشاط الفني المبني على مدّ الجسور والانفتاح والتفاعل وأصبح كل ما اعتبر هامشيا و”دون المستوى المطلوب” من صميم الحركة الفنية للمتحف.
اليوم، لم ينجز تأهيل المتحف تماما، ولكن هذا لم يمنع أن يفتتح مكتب اليونسكو الإقليمي متعدد القطاعات في بيروت ضمن مبادرة “لبيروت”، معرضا تحت عنوان “المدينة وأنا” ومناسبته هي إعادة إعمار قصر سرسق بعد تضرره في انفجار مرفأ بيروت، بدعم من سويسرا ومن مساعدات عالمية كثيرة.
ويضم المعرض أعمالا فنية لطلاب الفنون الجميلة من جامعة الألبا (البلمند)، الجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية، ويستمر حتى الأول من أغسطس المقبل. وقد ذكرت مديرة مكتب اليونسكو بيروت كوستانزا فارين للصحافة، في مناسبة افتتاح هذا المعرض، “يسرني أن أستقبلكم اليوم في قصر سرسق إلى جانب العائلة، لقد دعونا ثلاث جامعات للمشاركة في هذا المعرض، وكنا نود أن نعرف ماذا يربط طلاب لبنان بمدينة بيروت وهذا المكان الأيقونة، وأيضا لإعطائهم فرصة للتعبير عن أنفسهم وعرض أعمالهم للجمهور وللمعنيين في مجال الثقافة في بيروت، مما قد يساعدهم على الانخراط مهنيا في سوق العمل. الطلاب قد سكنوا أروقة وزوايا هذا القصر بأعمالهم، وهذا دليل موهبة وإبداع”.
موضوع المعرض الذي حمل عنوان “أنا والمدينة” يتناول إشكالية العلاقة مع المدينة في زمن الانهيار الكبير أو حتى قبله. ومن الفنانين الطلاب المشاركين نذكر: علي مرعي وماريز عقل ورشا خليل وكارول حبيقة وكلوي حاج ونادين كرباج وروجيه معراوي وشاكر أبي راشد وكريستينا معلوف وياسمينا شويري وليا شيخ موسى وجوليا هاشم.
موضوع المعرض الذي حمل عنوان "أنا والمدينة" يتناول إشكالية العلاقة مع المدينة في زمن الانهيار الكبير أو حتى قبله
ويذكر أيضا، من ضمن التجديد في منطق النشاط الفني الذي بدأه متحف سرسق افتتاح خمسة معارض هي “موجات الزمن” (تقييم كارينا الحلو) المعنيّ بسرد تاريخي لمتحف سرسق ولمعارضه وللأحداث الاجتماعية السياسية المحلية البارزة للإنتاج الفني في البلاد، و”طريق الأرض” لمروى أرسانيوس وأحمد غصين وسابين سابا الذي موضوعه قضية شائكة وهي استملاك الأراضي وملكيتها في لبنان وهناك أيضا معرض “إيجيكتا ـ قذف” وهو معرض يعتمد على تجهيز سمعي بصري للفنان زاد ملتقى.
ومعرض “رؤى بيروت” الذي احتضن صورا من مجموعة فؤاد دباس وفيديو لإيكونيم يُظهر 30 ألف صورة تمّ دمجها ببعضها لإعادة خلق مشهديه افتراضية للمباني التراثية في بيروت، وأخيرا معرض “أنا جاهل” عن صالون الخريف والمتن الفني الثقافي لرواد الفن التشكيلي في لبنان.
يبقى أن نتمنى للقيمين على متحف سرسق ألاّ تكون هذه الانطلاقة الجديدة مجرد موجة عابرة وأن يستمر في جعل المتحف نابضا بالحياة ومُقرا بالآخر الذي لا ينتمي إلى منطقة جغرافية ونفسية واجتماعية ضيقة لم تكن يوما قادرة على تظهير وجه لبنان الحقيقي بكل تنوعاته التي تصل أحيانا كثيرة إلى حد التناقض.