ما يجري في غزة.. هل هو حرب

الأمر ليس ملتبسا على أصحاب الألباب، فالأمور تبدو جلية وواضحة. ما يجري في غزة منذ ما يزيد عن 15 شهرا منطقيا ليس حربا بين جيشين كما تصوره بعض القنوات الفضائية دون الإشارة إلى أيّ قناة بعينها، وإنما حرب مجنونة من طرف واحد تقودها إسرائيل ضد شعب أعزل. لا مقارنة عسكرية بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، الكلام الفصل هنا المفارقة في العدة والعتاد بين إسرائيل والفصائل لا تكاد تذكر.
المثير للدهشة وفي وسط هذا المشهد استعرت حرب طاحنة تمثلت في تضخيم الحدث وما يطلق عليه حربا في قطاع غزة، يعتبر في نظر جهابذة المحللين العسكريين المحايدين سقطة إعلامية كبيرة بصرف النظر سواء كانت مقصودة أم غير مقصودة. فأحيانا تقوم بعض وسائل الإعلام بتوجيه انتباه المستمع والمشاهد لحدث ما حيث يركز خلاله المشاهد أو يسلط انتباهه بشكل مقصود من وسائل الإعلام على جانب من الحدث، ويترك الجانب المهم. فحال المتابع وكأنه لا يسمع عنه البتة. مثلا، بعد سقوط بشار الأسد في سوريا احتلت إسرائيل جزءا غير بسيط من القنيطرة حتى أصبحت قواتها على تخوم دمشق، بينما، الإعلام الموجه الذي حمل على عاتقه مقارعة الاحتلال بالكلمة تطرق للأحداث في القنيطرة ومحيطها بشكل خجول، وكان جل تركيزه على معتقلات صيدنايا وتدمر وغيرها.
لقد شاعت في الآونة الأخيرة أنباء عن صفقة على وشك إتمامها منذ شهرين أو يزيد قليلا مقابل إطلاق سراح 34 إسرائيليا لدى الفصائل الفلسطينية، مع بقاء تواجد إسرائيل في شمال غزة ونتساريم والبحر مع تخفيف جزئي لقواتها. هذا يعني أن إسرائيل لن تنسحب بشكل كلي من القطاع، وربما تسمح لعدد بسيط بالعودة إلى الشمال. ولو افترضنا بأن ما يجري في غزة حرب بمفهومها الشامل فينبغي أن تكون الورقة الرابحة بيد حماس والفصائل لأنها تقاتل على أرضها مثل لعبة كرة القدم، وأن تفرض هي شروطها على إسرائيل. لكن المكابرة عند البعض التي لا تعترف وتحاول الابتعاد عن مجريات الأحداث هي سيدة الموقف. الصحيح أن إسرائيل دقت أوتادها في غزة وباقية هناك. هذا ما صرّح به الساسة في إسرائيل وجنرالات الجيش، فلقد تمكنت من القطاع وتمسكت به واعتبرت وجودها هناك أهم ما حققته في حربها على القطاع.
◄ تضخيم ما يحصل في غزة لا يخدم المصلحة العامة، وإنما يرسم صورة مغايرة عن أرض الواقع، شعب لا حول له ولا قوة مقابل جيش عصري مدجج بكل أنواع السلاح
المشهد اليوم، المواطن الغزي مطلبه الوحيد والأوحد وقف العدوان ضده فهناك من يتغاضى أو يصم أذنيه عمّا يشاهد من دمار. فالغزيون يعانون الأمرّين نتيجة الجوع والعطش والمرض والبرد القارس، فالمعاناة اليومية لأهل القطاع المكلوم ما زالت مستمرة وفي حال وضعت الحرب التي تقودها إسرائيل أوزارها سوف يبقى القطاع يعاني لسنوات طوال.
وبعد سرد العديد من مشاهد المعاناة في غزة لا بد من التطرق إلى دواعي طوفان الأقصى الذي يعود إلى أمرين اثنين: وهما نصرة للأقصى وحرية العبادة فيه، والتخفيف عن الأسرى. فمن المفروض بعد طوفان الأقصى أن تكون الصلاة في المسجد الأقصى أكثر أمانا وأن يكون وضع الأسرى في حالة جيدة. أصبحت الصورة عكسية وانقلبت الأمور رأسا على عقب فبعد الطوفان زادت الأمور صعوبة، وإجراءات الدخول إلى المسجد الأقصى من أجل الصلاة باتت محفوفة بالمخاطر، وتبعها ذلك نقص حاد في عدد المصلين نتيجة إجراءات إسرائيل التعسفية بحقهم فضلا عن التنكيل بالأسرى والإمعان في إذلالهم.
وأخيرا ومن دون الخوض في تفاصيل الحروب بقضها وقضيضها، نحن أمام مشهد لا يستطيع الإنسان العادي البسيط الوقوف عليه بشكل واضح. هل نحن فعلا في حالة حرب حقيقية بين جيشين منظمين بكامل التسليح مع فرق بسيط بينهما؟
في أساس نسيج المفارقات أن القوة العسكرية الموجودة بحوزة إسرائيل لا تحصى ولا تعد، والدعم الأممي لها هائل جدا وهذا ما شاهدناه منذ سنة ونيف. ما يجري في غزة ما هو إلا جيب مواجهة، فمنطقيا لا يصنف حربا.
وفي ضوء ما سبق، رسالتي إلى وسائل الإعلام بمختلف أشكالها هي أن تكف عن تصوير ما يجري في غزة بأنه حرب. ما يقع اليوم في القطاع الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومترا حرب من جهة واحدة يصح وصفها بالإبادة الجماعية التي لا نعرف متى تنتهي فصولها. فجميل أن نسمي الأشياء بمسمياتها، وأن نضع أقدامنا على الطريق الصحيح، فتضخيم ما يحصل في غزة لا يخدم المصلحة العامة، وإنما يرسم صورة مغايرة عن أرض الواقع، شعب لا حول له ولا قوة مقابل جيش عصري مدجج بكل أنواع السلاح.