مانيفستو الوعي.. إعلان تمرد في وجه حفلة التفاهة

يقول ميلان كونديرا في كتابه “حفلة التفاهة”، “أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام، لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد.”
ربما علينا ألا نأخذ كل ما يحدث في العصر الحالي على محمل الجد، وربما فعلا ما يعيشه العالم في ظل وسائل التواصل الاجتماعي أشبه بحفلة التفاهة، صُنعت باحترافية وأصبحت صناعة تدرّ أرباحا طائلة، تعيد تشكيل وعي الأفراد بمفاهيم جديدة، وسط كمٍّ هائل من المعلومات التي يصعب التمييز بين الصدق والكذب فيها.
ترى صُنّاع المحتوى يتساءلون: “كيف نجذب الجمهور من اللحظة الأولى؟” ويتسابقون في صناعة محتوى لجلب أرقام هائلة، يريدون تحقيق ثروات ضخمة، يعبّرون عن امتنانهم وفخرهم بإنجازاتهم العظيمة، ثم تتساءل: ما القيمة المضافة لمحتواهم؟ وأيّ كلمات حكيمة خرجت منهم؟
في ظل هذا الكمّ الهائل من صُنّاع المحتوى.. أين صُنّاع الوعي؟ من يبادر إلى إعادة تشكيل الوعي المجتمعي بشكل يُسهم في نهضة البنية الفكرية والثقافية؟
صناعة الوعي اليوم ليست مجرد خيار، بل ضرورة وجودية في معركة بين الفكر والتفاهة. ولا بد من استعادة أدوات التحليل والنقد والشك والفكر، وإلا فإن العالم سيظل غارقا في فقاعة الوهم
من يقف في وجه الانحدار الذي أصاب العقل البشري، في عالم ينهار سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا؟
هذا زمن يفتخر فيه الإنسان ببناء قصور من فقاعات، قلاع في الهواء بلا جذور، ولا قواعد تحميها. الجميع مشغول بكيفية “صناعة محتوى” دون أن يدرك أنه هو ذاته بات محتوى مستهلكا، يبيع منتجات ويضحي هو “بقيمة إنسانيته” ليصبح مجرد سلعة أخرى.
محتوى تلو الآخر.. يعزّز النظام الرأسمالي الذي يقوم على الانبهار بالمظهر، بينما المحتوى الحقيقي مفقود. يلهثون خلف الأرقام.. ثم يصبحون أرقاما. قيمتهم تكمن في عدد المتابعين، يتفاخرون بالمليون، بينما لم يتركوا أثرا حتى لدى نصف متابع. فما القيمة الحقيقية من كل هذا؟
لا أحد يسأل: كيف أزرع فكرة؟ كيف أستفز متابعا بسؤال يتركه في مواجهة ذاته، مبادئه، أفكاره، فلسفته؟
كيف سيحدث ذلك، بينما صناع المحتوى غير قادرين على الخروج من الصندوق، وغير مستعدين لنَبْش الحقيقة في قبور يرفضون الاقتراب منها، كيف يحدث ذلك، وهم أنفسهم نتاج مجتمعات ومؤسسات تعليمية ودينية ترفض الفكر، الحوار، الفلسفة، النقد، حرية الرأي، التحليل؟ كيف يتركون أثرا وهم عاجزون عن ترك أثر حقيقي في داخلهم، غير قادرين على امتلاك شجاعة الثورة على مبادئهم وأفكارهم ومعتقداتهم. إنهم مجرد نُسَخٍ متشابهة، ترندات مكررة، بلا روح، بلا أصالة. أحلامهم متشابهة، أفكارهم متشابهة، طرقهم في تحقيق النجاح متشابهة.. وحياتهم الواقعية لا تشبه صورهم الرقمية.
في عالمٍ تتعاظم فيه الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كيف يمكن للإنسان المعاصر أن يدّعي السعادة؟ وفي عالم باتت علاقاته رقمية، تُخفي وراءها هشاشة عاطفية وفراغا إنسانيا، كيف نصدّق هذه الصورة المصطنعة؟ وفي عالم يُروّج فيه للخرافات على أنها حقائق، وتُقدم المعلومات المضللة فقط لكونها تجذب جمهورا أكبر، كيف لنا أن نصدق كل ما يُباع في سوق الأوهام؟
في عالم رقمي، أضحت الشرائح التي تُزرع في عقل الإنسان ليست خيالا، بل كانت بداية تطبيقها حين زرعوا الهواتف في عقول الناس، وأضحى البشر رويدا رويدا أشبه بروبوتات بيولوجية، فكيف يمكن للفرد أن يزعم أنه يملك قراره؟ الناس تُبهرهم الأرقام، يقيّمونك بعدد المتابعين قبل أن يتوقفوا للحظة ويتساءلوا: ماذا لديك لتقدّمه؟ يركضون خلف الصورة اللامعة، هذا يسافر، ذاك يتألق، تلك تبدو كدمية، وهذا يملك سلطة ومالا.. لكن في النهاية، قلة من يقدمون شيئا ذا قيمة، وقلة يقدمون صورة حقيقية عن أنفسهم.
يعيشون في “عالم رقمي”، بينما الواقع الحقيقي ينهار. يبيعون وهم الطاقة الإيجابية، بينما يعاني أغلبهم من الاكتئاب الوجودي. يتحدثون عن تخطي العلاقات، بينما لا يستطيعون حتى فهم أنفسهم. يضخّمون “الأنا” ويرفعون “الاستحقاق”، حتى بات إحساس الفرد المعاصر في ذاته يتعاظم، واستحقاقه الفردي مبنيا على لا شيء، كل شخص بات أشبه بفرعون في مملكة فقاعية. لكن، في المقابل أيّ قيمة إضافية يقدمون؟ هُوية فكرية، قدرة نقدية؟ هيكلية أخلاقية؟ ما حقيقة تعاملاتهم البشرية، وعلى أيّ قيم مبنية؟ هل يمكنهم المساعدة في إيجاد عالم واقعي أفضل؟ وهل صورتهم الرقمية تمثل انعكاسا لواقعهم، أم أنهم يروجون لحياة زائفة، بينما هم في الحقيقة مجرد مستهلكين ومشجعين على الاستهلاك في آلة الرأسمالية؟
في زمن باتت الماديات تُعرّف الإنسان، فمن أين تأتي قيمتك؟ من حقيبة؟ من سيارة؟ من علامة تجارية؟ ثم من يبني مجتمعات متهالكة؟ كيف لهم بلا عقول وحكمة وفكر استعادة هُويتهم المشوهة؟
في زمن باتت الماديات تُعرّف الإنسان، فمن أين تأتي قيمتك؟ من حقيبة؟ من سيارة؟ من علامة تجارية؟ ثم من يبني مجتمعات متهالكة؟ كيف لهم بلا عقول وحكمة وفكر استعادة هُويتهم المشوهة؟
بعيدا عن كونهم يرددون ترندات لشعارات سياسية اجتماعية دينية، بقوالب جاهزة يتم شراؤها. حتى نكباتهم تحولت إلى ترند، وأضحى كل منهم نسخة هشة عن الآخر.
لذا، في ظل حفلة التفاهة، نحن في حاجة إلى مؤثرين حقيقيين لديهم القدرة على الثورة على عالمنا الحالي بهيكليته الكاملة؛ السياسية، الفكرية، الاقتصادية، الدينية، الروحانية، القيمية، لأنها حقيقة ما عادت تخدم الأغلبية.
حفلة التفاهة لا تتوقف عند حدود المحتوى السطحي والمبتذل، بل تمتد إلى العمق الاجتماعي والسياسي. في مجتمعات تعاني من الفوضى، الفساد، والتفاوت الطبقي، يصبح تسليع الوعي وتعميم التفاهة إستراتيجية ممنهجة لإشغال الأفراد عن التفكير في القضايا الحقيقية. فالناس الذين يستهلكون محتوى تافها بلا انقطاع يصبحون أقل قدرة على التحليل، أقل ميلا للنقاش الجاد، وأكثر استعدادا لتقبل الشعارات الفارغة بدلا من المطالبة بإصلاحات جذرية.
هذه العملية تنتج مواطنا رقميا منفصلا عن واقعه، غارقا في استهلاك الترفيه المعلّب، وعاجزا عن رؤية الصورة الكاملة. وعندما تُستبدل الأسئلة العميقة بالترندات اللحظية، تصبح المجتمعات أكثر قابلية للانقياد، وأكثر عرضة للتحكم السياسي والاقتصادي دون مقاومة حقيقية.
لذا صناعة الوعي اليوم ليست ضرورية فقط لمواجهة السفاهة والتفاهة، بل لمواجهة تعطيل منهجي لأدوات التحليل والنقد والشك، حيث هناك سعي واضح لمنع الناس من التفكير والتدبّر في مختلف المجالات، مما يحدّ من قدرتهم على ممارسة الفلسفة كأسلوب حياة ومنهج تفكيري.
هذه العوامل لا تخلق فقط مجتمعات سطحية، بل تنتج نسخا متشابهة، مكررة، خالية من أيّ هوية فكرية فردية مستقلة قادرة على إثراء المشهد الإنساني بموزاييك من الأفكار والإبداع.
اليوم، هناك ماكينة تُحوّل كل شيء إلى سلعة؛ الماكينة المادية التي تُقدّم المظاهر على المضمون، وتجعل القشور أكثر أهمية من الجوهر. هذه الظاهرة لم تبدأ مع الثورة الرقمية، بل جذورها تمتد إلى مجتمعات اهتمت بحمل الشهادات أكثر من قدرتها على إنتاج عقول مفكرة وناقدة. مجتمعات تقيس قيمة الأفراد بما يملكون من جاه ومال، لا بما يفكرون، في ظل تهميش العقول الحكيمة والواعية.
لذلك، فإن صناعة الوعي لا تكتفي بمجرد تقديم البدائل الفكرية، بل تحتاج إلى مواجهة مباشرة لتقاليد مجتمعية لم تضع أيّ أسس ثقافية متينة تحميها من غزو التفاهة والسفاهة. هذه المجتمعات لم تتعرض فقط لتراجع فكري، بل تم تفكيك أسسها الأخلاقية والروحانية والفلسفية بسهولة، مما جعلها مسرحا كبيرا للملهاة، حيث كل شيء يخضع لمنطق السوق، وكل فكرة تُستبدل بعرض ترفيهي سطحي، وكل قيمة تنهار أمام مدّ المادية الجارفة.
صناعة الوعي اليوم ليست مجرد خيار، بل ضرورة وجودية في معركة بين الفكر والتفاهة. ولا بد من استعادة أدوات التحليل والنقد والشك والفكر، وإلا فإن العالم سيظل غارقا في فقاعة الوهم.