"ماما ماغي" تيريزا مصرية تطارد فقر الأطفال

المصرية ماجدة جبران امرأة لا تفرّق في رسالتها الخيرية بين المسيحيين والمسلمين.
الاثنين 2020/03/16
أم المصريين

العمل الإنساني لا يعرف حدودا ولا فوارق بين الطبقات والعقائد والطوائف، هذه رسالة امرأة مصرية تفرغت لطرد الفقر عن أطفال مصر بقطع النظر عن انتماءاتهم الدينية، فالمسيحيون والمسلمون من الأطفال الفقراء هم مصريون في حاجة إلى رعاية وتعليم وتوجيه.

القاهرة - تُرشح المصرية ماجدة جبران الشهيرة بـ”ماما ماغي” لنيل جائزة نوبل للسلام، نظير جهودها الخيرية في رعاية الأطفال والعمل على تأهيل بيئة أفضل للعيش، في رحلة يربطها البعض بالشهيرة القديسة ماما تيريزا صاحبة الباع الطويل في العمل المجتمعي على مستوى عالمي.

في لقاءات عديدة تظهر خلالها ماما ماغي دائما في هيئة راهبة، بملابس بيضاء ناصعة وغطاء للرأس، صوت منخفض النبرة مطمئن، تحدثت السيدة المسيحية عن هدفها الذي يعتني بالمصريين ولا تفرق نظرته وجهوده بين مسلم ومسيحي، وعملت جمعيتها في أماكن مهمشة كثيرة بمصر، وافتتحت فروعا عديدة في مناطق فقيرة من أجل الهدف ذاته.

ترك حديث ماما ماغي صدى وتساؤلات في ظل معايشة حوادث طائفية، بدأت بمجرد تدشين مسيحيين لكنيسة في مبنى مدني داخل قرية، وأقاموا الصلاة فيها، ما أثار حفيظة المسلمين حتى اندلعت فتنة لم يخمدها سوى التدخل الأمني.

على الرغم من أن جهودا حكومية ساهمت في وقف تلك الحوادث بعد صدور قوانين تنظم مسألة بناء الكنائس، إلا أن الأفكار التي تنظر بريبة إلى الآخر وتتخوف من العمل الذي يتصدره مسيحي على اعتباره “تبشيرا” وفق الخطابات المحرضة جعلتنا نتساءل، هل واجهت ماما ماغي الصعوبات نفسها، أم أن الفقر يجعل تقبل الآخر أكثر إمكانية، وهل العمل الخيري المشترك مفتاح لنبذ الطائفية؟

فوق الهضبة

نقطة البداية
نقطة البداية

عند مدخل هضبة المقطم في القاهرة، يلمح المار السيارات المخصصة لنقل القمامة متراصة، كأنها تراقب ما يحدث في الأسفل، وهي كذلك بالفعل، إذ تتجمع في ذلك الحي قمامة تحمل الكثير من الأسرار والدلالات، وكذلك العاملين فيها.

ورد ذكر ذلك الحي في رحلة ماما ماغي كمحطة البداية، حيث النقطة التي تحولت فيها حياتها من أستاذة كمبيوتر في الجامعة الأميركية بالقاهرة إلى متفرغة للعمل الأهلي وخدمة الفقراء.

جاءت ماما ماغي إلى هنا قبل سنوات، ولا أحد يعرف التاريخ على وجه الدقة، كذلك الأهالي لا يحفظوه، البعض يعرفها جيدا، يبادرنا بعبارة “المرشحة لنوبل” رأيتها على التلفاز، وآخرون يجهلون من هي.

تقول ماما ماغي في أحاديث سابقة، إن زملاءها أقنعوها بزيارة منطقة حي الزبالين لتقديم الهدايا للأطفال، لكنها صُدمت حين رأت حال الفقر والأوضاع الرثة، فقررت العمل معهم، وتعليمهم وتنميتهم لعيش حياة كريمة.

لم يكن الوصول إلى الحضانة التي أسستها ماما ماغي داخل حي الزبالين يسيرا، حاولنا في البداية الوصول إلى مقر جمعيتها في القاهرة دون فائدة، والتي تحمل اسم “ستيفن تشيلدرن”، موقع الجمعية على الإنترنت إنجليزي بالكامل موجه للخارج، لا يحمل من مصر سوى وجوه الأطفال الباهتة وأحوالهم، كما أنه لا يحمل عنوانا لأي مقر في القاهرة، والرقم الموجود غير صحيح.

في المنطقة، هواء ثقيل، رائحة القمامة متراكمة تحولت إلى رائحة أخرى هي جزء من كل شيء، يتعايش معها السكان على نحو طبيعي، تنفذ الرائحة لأنوف الوافدين الغريبين ممن يميزهم الأهالي بسهولة.

حي الزبالين في القاهرة حوّل ماما ماغي من أستاذة كمبيوتر في الجامعة الأميركية إلى متفرغة للعمل الخيري وخدمة الفقراء

أول ما يلفت انتباه المتجول داخل المنطقة صبغتها المسيحية، الصلبان معلقة على كافة المنازل، صور القديسين والباباوات في النوافذ، والمسجد الوحيد الذي قابلناه، فيما أخبرنا الأهالي عن وجود آخر، يبدو مهجورا، فغالبية أهالي المنطقة بنسبة تتجاوز 95 في المئة (وفق الأهالي) من المسيحيين، ولم يحالفنا الحظ لمقابلة أحد من الـ5 في المئة الآخرين، ولم تواجه ماما ماغي رفضا على أساس الدين، إذ أنها انطلقت بالفعل من منطقة مسيحية.

في مبنى مفتوح بابه ولا يحمل أي لافتة في الخارج، عثرنا على الحضانة، أو مقر جمعية ماما ماغي في المقطم بعدما أخبرنا الأهالي عن موقعها وساعدونا إذا ضللنا الطريق بالسؤال عن حضانة “ميس عفاف”.

يقابل الداخل فضلات طعام ملقاة في حوض يشير إلى الانتهاء من تناول وجبة ما، منزل متوسط يجلس فيه نحو 15 طفلا يلعبون، سيدة قاربت على الوضع تشرف على الأطفال، ومحاسب، هما كل الإداريين الموجودين في المكان.

يتزين حوش الحضانة بصور ماما ماغي، بعضها بصحبة رجال الدين، وأخرى مع شخصيات عامة، لم يكن الاستقبال حافلا، رفض الموظفان في البداية الإجابة على أي سؤال خاص بمشاريع الجمعية ومواعيد تواجد ماما ماغي، قالوا فقط إن مقر الجمعية الرئيسي ليس هنا، هو في منطقة مصر الجديدة، “لكن لا أعلم أين تحديداً وليس لدي وسيلة للتواصل لأساعدكم بها”، هكذا قال المحاسب.

بعد إلحاح، أوصلتنا المشرفة بعماد بيشاي على اعتبار أنه المسؤول عن كل شيء، هاتفناه، رفض طلبنا بالتصوير، وعدنا بلقاء قريب مع ماما ماغي، وحين عاودنا مراسلته بعد أيام لم يرد.

في محيط المقر، تحدثنا إلى بعض الأهالي، شكا سمعان شحاتة، وهو أب لثلاثة أبناء من غياب الخدمات في المنطقة، لافتا إلى أن حضانة ماما ماغي بمقابل أيضا، يُدفع 100 جنيه شهرياً للطالب، بالإضافة إلى 10 جنيهات يوميا نظير وجبة طعام، وبما أنه يلحق أبناءه الثلاثة بها، فإنه يدفع شهرياً 1200 جنيه (نحو 80 دولارا) كمصاريف حضانة فقط.

يتدخل كهل في الحديث ويدعى سمعان أيضا شاكرا الجهود الخيرية لماما ماغي، يقول إنه لجأ إليها قبل أسابيع لمساعدته في تجهيز ابنته للزواج، ولم تتردد في مساعدته، كما لا تتردد في مساعدة كل محتاج في الحي.

يشير آخر إلى عربة كار، تأتي ماما ماغي في الأعياد والمناسبات، مستقلة تلك العربة المتواضعة وتجول في الحي توزع الهدايا والحلوى على الأطفال.

بؤر مختلطة

رائدة في العمل الإنساني
رائدة في العمل الإنساني

نموذج ماما ماغي يطرح سؤالا، هل العمل التنموي الذي يعتبره الكثيرون دواء للطائفية المرتبط غالباً بالفقر والجهل، هو المفتاح لإخمادها، أم أن الطائفية عائق للعمل التنموي؟

في محافظتي قنا والأقصر، ثمة نماذج، تكشف أن الطائفية بالفعل تعد عائقا للعمل التنموي في أحيان كثيرة، تخوفات ورفض من الانخراط في أي جمعية أهلية مسيحية في البداية.

في القرى الأكثر التهابا وحساسية يعد توجيه العمل الأهلي من مسيحيين إلى الفقراء المسلمين مخاطرة غير مضمونة العواقب، أي أننا أمام خارطة يمكن أن تقسم إلى مناطق “أ- ب- ج” وفق التوتر والطائفية، والعكس حيث القابلية للتعايش.

وفق ذلك المنطق تعمل جمعية “قلب مصر النابض” التي تم إشهارها في الأقصر قبل أشهر، مستندة إلى سنوات من العمل في ملف “التعايش السلمي” ونبذ الطائفية عبر جسر تنموي.

اللافت أن الجمعية التي تهدف بالأساس إلى مواجهة التطرف لا تتطرق إلى اللفظ في أي من أنشطتها، فهي ليست صاحبة مؤتمرات يتزامل فيها الشيخ والقسيس، يتبادلان التحية ثم ينصرفان دون أن يؤثر ذلك اللقاء العابر في الأفكار المتوارثة والقلق من الآخر.

على الخلاف، تعتمد جمعية “قلب مصر” المنبثقة عن مشروع باسم “التعايش السلمي” لمسلمة من محافظة المنيا تدعى هناء، ومسيحي من الأقصر يدعى سامح ثابت، على إستراتيجية اكتشاف الذات والتعليم بالفن لأطفال هم جيران في مناطق واحدة ومدارس واحدة، غير أن كلا منهم داخله أفكار تنمط الآخر وترفضه.

يقول ثابت لـ”العرب”، “بدأنا العمل من قرية هناء في قنا قبل 3 سنوات، الأمر كان غريبا على الأهالي في البداية، الأطفال يرفضون الحديث مع بعضهم، والأهالي يهمسون لهناء كيف تعملين مع نصارى (لفظ دارج للمسيحيين في مصر)”؟

الجمعية ليست فضاء مؤتمرات يتزامل فيها الشيخ والقسيس ويتبادلان التحية ثم ينصرفان من دون قرارات

ورغم التحفظ المبدئي عند الأهالي، كان الأمر مغريا أيضا، خصوصاً أن المشروع يعمل على الأطفال والأهالي في آن، ومن ثم اطمأن الآباء الى قدرتهم على مراقبة ما يتعرض له الأبناء، اندمجوا في البداية كمراقبين، ونجح المشروع في تغييرهم أيضا.

المشروع كان يهدف إلى مناهضة التمييز أيا كان، على أساس الدين أو الجنس، عمل مع الأطفال في ورش رسم ومن خلال ألعاب لاكتشاف الذات، ومباريات كرة قدم يتزامل فيها المسلم والمسيحي في فريق واحد، الذكر والأنثى، وورش حكي، في ختامها يكتشف الأطفال أن همومهم واحدة، أفكارهم وطموحاتهم واحدة، ينشغلون بالبحث عن الذات بعيدا عن تنميط الآخر أو تقييمه.

الاندماج والتعايش اللذان برزا في القرية اصطدما باتهامات التبشير والهجوم الحاد المعتمد على آراء دينية، حين أعدت قناة تلفزيونية تقريرا عن المبادرة.

يوضح ثابت، “أحبطتني الكثير من التعليقات، لكنها لم تفاجئني أيضاً، لولا علمي بوجود بل رسوخ تلك الأفكار، لما بذلت وقتي وجهدي لمناهضتها بالعمل المجتمعي التطوعي فيما أنا أعمل مرشدا سياحيا”.

كان سبب الهجوم الكبير على التقرير أن فاعليات المبادرة انتقلت مع توسعها إلى حوش كنيسة في محيط القرية، رحب راعيها بفكرة المبادرة، كما أن إجراءها في محيط الكنيسة ذاته، يعد وسيلة لإزالة الأفكار المتراكمة عن الآخر.

كرر ثابت فاعليات المبادرة في قريته بالأقصر “الشغب”، فكان للمبادرة حضور لافت في كافة المناسبات الدينية الخاصة بالمسلمين والمسيحيين، بجانب نشاط مجتمعي وتنموي، ونجحت في تنظيم موائد طعام مشتركة.

وبعد إشهار المبادرة كجمعية رسمية، يعمل ثابت و10 آخرين من المسلمين والمسيحيين من الفئة الأكثر تعليماً في القرية على وضع إستراتيجية للعمل تشمل الجمهورية ككل وتتقصى مصادر التمويل.

تحديات متزايدة

التعليم بوابة الأمل
التعليم بوابة الأمل

يعي ثابت أن همهمات الرفض أو القلق البادي على الأهالي لن تكون جل ما تلاقيه جمعيته مع توسعها، لأن القريتين اللتين سجلتا نشاطا لم تعرفا من قبل حوادث طائفية، وإن كان في محيط قرية قوص في قنا، تم حرق كنائس إبان عزل الرئيس الإخواني الأسبق محمد مرسي.

تعد القريتان ضمن الفئة “ج” تسبقهما قرى تصنف كمناطق توتر متوسط، وأخرى أكثر توتراً، وتتطلب مشاريع العمل فيها إمكانات كبيرة وتنسيقات هائلة، بداية من إقناع الفئة الثقافية الأعلى في تلك القرى بالأهداف مروراً باللجوء إلى كبار العائلات، وصولاً إلى بدء مشاريع يجب أن تكون أحد أعمدتها التمكين الاقتصادي بمشاريع صغيرة، وتلك الإمكانيات لا تتوافر لدى الجمعية في الوقت الحالي.

يتفق مدير منظمة كاريتاس الكاثوليكية الدولية في الأقصر أيمن تاوضروس، على وجود صعوبات تواجهها أي جمعية مسيحية تتصدر العمل العام.

ويلفت لـ”العرب”، إلى أن الأقصر مجتمع متعايش، لا تظهر فيه الطائفية بصورة واضحة، ورغم ذلك هناك حرص على وجود شركاء حكوميين ومحليين عند النزول للعمل الميداني لطمأنة الأهالي ومواجهة الرفض المجتمعي والقلق، مضيفا: “عبارات التبشير قد لا يصرح بها الأهالي مباشرة في وجوهنا لكن القلق والانزواء ورفض التعاون مظاهر تبدو بارزة لدى الكثيرين”.

وتعمل كاريتاس في مشاريع تنموية تسعى إلى محو الأمية والتوعية الصحية وتقديم خدمات لذوي الاحتياجات الخاصة، وهي ككل الجمعيات التي تهدف إلى العمل الأهلي لا تختص بفئة ولا تمارس تمييزا، غير أن ذلك لا يعني أن طرقها ممهدة أو أن العمل الأهلي يذيب الطائفية وحده.

20