"ماما لوزة".. بطلة مجهولة في العرض المصري الشهير "الليلة الكبيرة"

فوزية عبداللطيف: العبء على محرك العرائس كبير فهو يصل بين الشخصية والجمهور.
الاثنين 2020/09/28
"الليلة الكبيرة" أيقونة فن العرائس

ما من أحد في الوطن العربي لا يذكر أوبريت “الليلة الكبيرة” الذي يعدّه النقاد أيقونة مسرح العرائس في مصر. هو أوبريت صاغ كلماته صلاح شاهين ووضع له الألحان سيد مكاوي وأخرجه للمسرح صلاح السقا. لكن لا أحد يعرف من يقف وراء تحريك تلك الدمى من خلف الستارة. فوزية عبداللطيف، الشهيرة بـ"ماما لوزة"، واحدة من أولئك النجوم الذين قبعوا في الظل حتى كاد يلفّهم النسيان. ”العرب” حاورت الفنانة السبعينية التي تعدّ إحدى رائدات فن تحريك العرائس في مصر والعالم العربي.

لن يفيد البحث عبر محرك غوغل في الوصول إلى اسم الفنانة المصرية فوزية عبداللطيف، ولن يعرف اسمها الكثير من المعجبين والمتابعين لفن مسرح العرائس.

لكن اُذكر أوبريت العرائس الشهير “الليلة الكبيرة” في المولد الشعبي، ثم تحدّث عن شخصيات: الفتاة التائهة في المولد، والقهوجي، وعازف الطبل، وبائع الحمص.. لتجد الكثير من المتابعات، بينما فوزية أو كما اعتادت عائلة المسرح مناداتها “ماما لوزة” هي من بثّت الحياة في الكثير من تلك الشخصيات الماريونيتية وجعلتها ترقص وتتحرّك، لتصبح أمام شخصية عاشت حياتها الفنية في الظل.

ذاكرة مسرحية

تجسّد الفنانة السبعينية محركة العرائس، فوزية عبداللطيف، ذاكرة مسرح العرائس العريق على وهنه الآني وشيخوخته، حيث تتّسم مرحلة الشيخوخة بندرة في الإنتاج لا يماثل الماضي، لذا فإن كليهما، ماما لوزة ومسرح العرائس، يعيشان الطور نفسه.

تعدّ عبداللطيف إحدى رائدات فن تحريك العرائس في مصر، قادتها الصدفة البحتة إلى عالم لم تكن على دراية به من قبل، وباتت صانعة فيه، تحرك العرائس، وترسخ للفن، وتجول العالم بعروض الفرقة التي أنشأتها وزارة الثقافة المصرية في الخمسينات من القرن الماضي.

الصدفة وحدها قادت الفنانة المصرية إلى المسرح، وباتت محترفة فيه، تحرك العرائس وتجول العالم

ورغم الخبرة الكبيرة التي تملكها والعرائس التي جمعتها في إحدى غرف منزلها، حيث توجد أكثر من مئة عروسة، فإنها هجرت الفن مع وصولها لسن التقاعد قبل أكثر من 15 عاما، لكن الفن الذي أحبته وخبرته لا يبرح ذاكرتها أو منزلها، وورثت ابنتها وزوجها المهنة ذاتها، وتخشى أن يتسرّب العشق ذاته إلى حفيديها، فيضطران أن يعيدا مسيرة حياة في الظل.

والظل الذي يرتبط دائما بمحرك عرائس الماريونيت، حيث يمنح من روحه إلى عروسة خشبية تغازل الجمهور، لن يؤلم صاحبه كثيرا، إذا كان مردود ما يفعله بارزا، لكن أن يعيش الفنان وفنه في الظل فهذا ما لا يُطاق. وما لا يطاق أيضا، بالنسبة لـ”ماما لوزة” التي استقبلت “العرب” في منزلها، أن يرتبط فن العرائس العريق في الذاكرة الشعبية بعمل واحد فقط، وهو أوبريت “الليلة الكبيرة”.

وهن مضاعف

رغم عشق “ماما لوزة” لعملها الذي استثمرت سنوات من عمرها فيه، لكنها تتذكّر بحسرة أعمالا أخرى رائعة، تتجاوز في حلاوتها ذلك الأوبريت، منها عروض حملت فلسفة عميقة وكانت سباقة لكنها لم تأخذ حقها، وتسأل بحسرة، “ربما لو أعيد تقديمها الآن لفهمها الجمهور”، لكنها تتذكر الوضع الحالي لمسرح العرائس فتصمت.

وتقول “كي يزدهر ذلك الفن مجددا لا بد أن ترعاه الدولة وتؤمن بأهميته، خصوصا وهو موجه بالأساس للأطفال، ومن ثم للأسرة، فالطفل لن يذهب إلى المسرح بمفرده، ولا بد أن يكون لذلك الفن كتابا قادرين على الكتابة لمسرح العرائس، وتوظيف إمكانياته، وتحقيق الإبهار، وفي نفس الوقت الرسالة متعددة المستويات”.

ألم تفكّري في افتتاح أكاديمية أو مسرح خاص؟ طرحت “العرب” هذا السؤال على “ماما لوزة” التي خطرت الفكرة ببالها من قبل بالفعل، لكن حال دون تنفيذها البيروقراطية والتسويق، وبات الناس يعتقدون أن مسرح العرائس اندثر من بعد “الليلة الكبيرة”، أما صناع المسرح والفرق المستقلة فيخشون من المخاطرة، ويلجأون إلى استنساخ “الليلة الكبيرة” وعرضه دون إجادة فيشوّهون العمل الرئيسي.

"ماما لوزة": تحريك العرائس يعلّم صاحبه المثابرة والقناعة والتواضع
"ماما لوزة": تحريك العرائس يعلّم صاحبه المثابرة والقناعة والتواضع

تعود فوزية عبداللطيف بالذاكرة لنشأة ذلك الفن في مصر، فتقول “كنت قد أنهيت للتوّ دراستي الثانوية، ولم أرغب في دخول الجامعة بل أردت أن أبدأ حياتي المهنية، بالصدفة رأيت إعلانا في جريدة يطلبون شبابا حديثي التخرّج للمشاركة في مسرح العرائس، ولم أكن قد سمعت به من قبل، لكن الفضول والرغبة في العمل دفعاني للذهاب في الموعد، وكان العنوان مسرح الطليعة، ووجدت عشرات يقدمون”.

وتضيف “أخضعونا لاختبار لم يكن يتطلب مهارات معينة، فقط القدرة على تأدية الحركات التي يمليها المدرب والمثابرة، ولم يصمد في النهاية سوى 20 شخصا، كنت واحدة منهم”.

وتتابع “تدربنا على أيدي مدربين مصريين تلقوا تدريبا على أيدي خبراء أجانب، وكنا الدفعة الثانية في ذلك الفن، وجلبوا لنا مدربين أجانب في مراحل أخرى، فضلا عن الفائدة الحية التي كنا نتحصل عليها عند السفر والمشاركة في مهرجانات بالخارج”.

أصبحت الفرقة 12 شخصا (المحركين)، وجاء وقت عرض أوبريت “الليلة الكبيرة” لأول مرة، ما مثل طفرة في ذلك الفن، وكان في البداية عن أوبريت غنائي في الإذاعة، غير أن شهرته في العرائس فاقت توقعات القائمين عليه.

وتوضح فوزية لـ”العرب”، “كنا نتوقع نجاح الليلة الكبيرة، وكان يملك عوامل النجاح والشعبية، فالكلمات لصلاح جاهين والألحان لسيد مكاوي دون الحديث عن جمالية العرائس، علاوة على الرمزية الكبيرة للمولد في الوجدان الشعبي، لكننا لم نكن نتوقع أن يصبح العمل في ذاته رمزا، كما أن الكثير من الأعمال الأخرى كنا نتوقع نجاحها، لكن سرعان ما تُنسى”.

وترجع “ماما لوزة” خلود “الليلة الكبيرة” إلى التلفزيون، الذي صوّرها ودأب على إذاعتها حتى باتت أيقونة، فيما تعجّ أدراج الوزارة أو الشركات الخاصة التي صوّرت عروض مسرح العرائس لحسابها بعروض أخرى حبيسة لم تخرج إلى النور.

فن متكامل

صورة أرشيفية من كواليس "الليلة الكبيرة"
صورة أرشيفية من كواليس "الليلة الكبيرة"

كسب عرض “الليلة الكبيرة”، وغيره من عروض المسرح، الذي كانت توضع له ميزانيات كبيرة، تتجاوز الـ10 آلاف جنيه، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت، جماهيرية عظيمة، وبات مسرح العرائس يقدّم أربعة عروض في اليوم الواحد لمدة خمسة أيام أسبوعيا، كلها تلقى إقبالا كبيرا.

اختبر المصريون ذلك الوقت فن العرائس للمرة الأولى، وبات الحديث عن الطريقة التي تتحرّك بها تلك الدمى المسحورة محل تساؤلات.

تشير فوزية عبداللطيف في حوارها مع “العرب”، إلى أن الجمهور لم يكن يعرفها، وكانت العروض تقدّم من خلف الستار، وبعد انتهاء العرض تستقل أتوبيس النقل العام، بصحبة جماهير كانوا في العرض، وذات مرة سمعت أحدهم يسأل الآخر عن كيف تتحرّك تلك العرائس، فرد عليه الآخر بالكهرباء، فابتسمت دون أن تتدخل في الحديث.

وعن سؤال “العرب”، هل تحريك العرائس فن أم عمل تقني؟ تقول “تحريك العرائس ليس مجرد حركة بلا هدف أو معنى، بل هي جوهر فن ومسرح العرائس، فالمحرك لا يقدّم حركات ميكانيكية، لكنه يتقمّص الشخصية التي يحركها تماما مثل الممثل، لذا يجب أن يدرسها ويعرف حركتها، العبء على محرك العرائس كبير، فهو يصل بين الشخصية والجمهور، ويصبح التحدي هل يستطيع أن يجذبه ويبهره ويقنعه ويربطه بتلك الشخصية أم لا”.

ولفتت “ماما لوزة” إلى المجهود العضلي الكبير في ذلك الفن، حيث يحتاج إلى ليونة وقدرة على التحريك الذي يجعل المحرك ممسكا بنحو تسعة خيوط أو أكثر في يده، ويحركها معا، مركزا على أن تنساب حركة الوجه مع اليد مع القدم مع الوسط.

فن يحتاج إلى مجهود عضلي وليونة
فن يحتاج إلى مجهود عضلي وليونة

ويتجاوز المجهود الذهني في ذلك العمل مثيله العضلي، ويتطلب قدرة فائقة على التصرّف، فخلال العرض قد يواجه المحرك أي شيء، كأن تنفك العروسة، أو ينقطع الخيط، وبالتالي عليه أن يحسن التصرّف سريعا.

لم تقدّم “ماما لوزة” تدريبات لأجيال جديدة في التحريك، فهي حتى سن التقاعد، كانت تُحرّك في فرقة مسرح العرائس التابعة لوزارة الثقافة المصرية، ومع ذلك حين أمسكت عروسة من جديد، بناء على طلبنا، بدأت الشرح عليها بسلاسة، منعشة كل ما تلقته وتعلمته من ذلك الفن.

وتجزم فوزية عبداللطيف أن التحريك فن لا يُنسى، وقد تتراجع قدرات صاحبه بفعل عوامل كثيرة في مقدّمتها السن، لكن تبقى ميكانيزميته وفلسفته راسخة، تطبع من صفاتها على صاحبها، فتعلمه المثابرة والقناعة والتواضع دون أن تكبح الطموح داخله.

17