مازن الرفاعي يتخطى القلب وينصّب العقل سيدا في "أعمال جديدة"

تواصل صالة “أجيال” البيروتية حتى الرابع من ديسمبر القادم الاحتفاء بالمنجز الفني الأخير للفنان اللبناني مازن الرفاعي، وذلك من خلال معرض يضمّ عشرين لوحة فنية مختلفة أحجامها ومشغولة بمادة الأكريليك، جاءت تحت عنوان “أعمال جديدة”.
تحت عنوان “أعمال جديدة” تعرض صالة “أجيال” البيروتية عشرون لوحة مشغولة بمادة الأكريليك للفنان التشكيلي اللبناني مازن الرفاعي.
معرض يعثر فيه المُشاهد على عدم ارتواء الفنان من اختبار اللاالمواد التلوينية المختلفة ولا الأساليب الفنية المعتمدة كي يتناول فيه موضوعه الوحيد: مدينته الخضراء/ البقاعية، بعلبك.
وكان الفنان قد نجح في كل مرة أقام فيها معرضا في تقديم نص فني ناضج يعبرّ عن قدرته في تطويع المشاهد الطبيعية، وهندسة بيوت بعلبك والقيام بتفكيكها وإعادة تركيبها وفق مخياله الفني الجماليّ وحبّه الذي لا ينضب تجاه مدينته.
أما بالنسبة للمواد التلوينية فقد استخدم لسنوات عديدة الألوان المائية كما استخدم الفحم أيضا، ثم دخل إلى عالم الألوان الزيتية ليخرج منها، ويدخل إلى عالم ألوان الأكريليك دون أن يغادر كليا ما اختبره سابقا من مواد.
بين مرحلتين

في لوحات الرفاعي الجديدة غاب الحزن وغاب الفرح وغابت المشاعر وبقي التشكيل الذي هو لبّ العمل الفني وفكرته
المُتتبع لمسيرة الفنان اللبناني مازن رفاعي يمكن أن يرصد التحوّل في نصه الفني حتى بلوغه اليوم مرحلة قد لا يستسيغها البعض، لأنها تعلن انتقال الفنان من مرحلة التعبير الفني إلى مرحلة التشكيل الفني، وفي حالته شتان ما بين الاثنين.
ويشكّل العنوان المُنتقى لهذا المعرض، أي “أعمال جديدة”، لاسيما بعد وضع عناوين لمعارضه السابقة من قبيل “هيك.. السهول” و”بيت في الحقول” مدخلا إلى منطق الأعمال الفنية المعروضة، والتي هي بالرغم من جماليتها تحيلنا إلى حيادية لا علاقة لها بسطوة اللون الأزرق في أعماله بعد أن كان لأخضر الأشجار والسهول المكانة الأولى في لوحاته، ولكن بسبب برودة، غير غريبة على شخصية الفنان وهدوءه المتّزن، جعلت من المشاهد المحبوبة لديه مختبرا لا تُسمع فيه لا اعتراضات السهول ولا امتعاض الطرقات من عزلها عن أسرارها. إنه عنوان، ولكنه ليس بعنوان، لأنه غير معنيّ بالمضمون بقدر ما هو معنيّ بالأسلوب.
ويبدو هذا المعرض ربما من أكثر المعارض وفاءا لشخصية الفنان الذي يعشق مدينته بعلبك بطريقة نادرة، فيصمّم بذهن صاف عشقه للأشياء ويقيس ويكيّل ربما عشقه للأشخاص أيضا كما يفعل صاحب عقل هندسي لا يتحد فيه تذوّق الجمال مع العاطفة تجاهه، أي تجاه الجمال، أو بفضله.
مدخل الفنان في لوحاته تلك هو مدخل إلى عالم “الأستتيك” من بابه العريض، إذ تبعثرت ماهية ما يُرسم تحت سلطة كيفية ما يرسم. وليس في هذا الكلام أية سلبية، ولربما يعتبر الكثير من الضالعين في الفن أن الرفاعي وصل إلى الاحترافية القصوى حيث الغاية تبرّر الوسيلة، أي حيث الشكل هو المُبتغى والموضوع هو الوسيلة.
ولعل أفضل طريقة للدخول إلى المعنى المقصود به آنفا، وربما تكون طريقة غريبة بعض الشيء (ولكن الغاية تبرّر الوسيلة)، هي وضع صور لوحات الفنان جنبا إلى جنب وبشكل عشوائي، ثم النظر إلى المجموعة نظرة شاملة غير معنية بالتفاصيل.
سيُكتشف الناظر إلى اللوحات الجديدة أن الفنان أصبح ساحرا بهلوانيا، وربما كان كذلك سابقا، ولكن ليس بهذا الشكل الواضح، حيث بات يُشقلب نظرته ويجعل لها في كل لوحة محطة حتى تصبح المجموعة الكاملة من الأعمال إن نظرنا إليها عن بعد وكأنها عقارب “دوّارة” لساعة جدار ملوّن، تدور في تخطيها لدورة كاملة يُختتم فيها مسار الزمن/ الساعات المُقاسة على عدد اللوحات/ الساعات التي كثّفها الفنان و”أحصاها”: عشرون لوحة وعشرون ساعة.
معادلة جديدة
من الواضح جدا أن مازن الرفاعي قد انتقل في “مجموعته الجديدة”، أو لنقل في “معادلته الجديدة”، من التعبير الذي قوامه العاطفة والانشغال بشعرية أو النثرية الغنائية للمشهد المرسوم وما يمثل بالنسبة لقلبه، أي لقلب الفنان، (وقد كانت العاطفة جلية إلى أبعد حد في مجموعته الفنية التي رسم فيها سابقا بعلبك بالأسود والأبيض) انتقل إلى التشكيل شبه البحت الذي أصبحت فيه قماش اللوحة مُختبرا “علميا” عالي الجودة يتلذّذ فيه الفنان بتطعيم الأشكال بأشكال أخرى، و”توضيب” الأحجام والألوان مع بعضها البعض، وتشبيك الخطوط بخبرة مُعلم قادر على تعرية الأشكال من أية إسقاطات عاطفية وشعورية.
وتحضر عناصر أو تفاصيل لتذكّرنا بما كان يقدّمه الفنان في معارضه السابقة ومنها المداخن الخارجة من أعلى جدران المنازل المرسومة.
غابت الشفافية التي أقامها في مواضع عديدة من لوحاته السابقة وانحازت “الصوفية” التي نبضت في معرضه “بيت في الحقول” إلى التركيبية/ الإنشائية/ الاختزالية الموفّقة.
وتحوّلت الخطوط البيضاء أو المساحات أو الشقوق الضيقة والعارية من الألوان التي كانت إمّا نورا في معارضه السابقة أو انسلاخا وتمزيقا “ميتافيزيقيا”، إذا صحّ التعبير، كما في معرض “هيك.. السهول”، إلى تصدّعات “غير مهمة” إلاّ شكليا، لتذكّرنا دائما أنها كانت حاضرة في سابق أعماله لتفصل بين مكان وآخر أو تشقه إلى طبقات لونية.
الرفاعي يدخل في لوحاته الجديدة عالم {الأستتيك} من بابه العريض، مبعثرا ماهية ما يُرسم تحت سلطة كيفية ما يرسم
هذه الخطوط البيضاء اليوم غير حاضرة، إلاّ لجماليتها حتى أن المساحات السوداء أو الزرقاء الغامقة في لوحاته الجديدة لا تحيل إلى الظلام ولا بشكل من الأشكال، بل تحيل إلى ذاتها وإلى جمالها وجمال تموضعها وانضباطها في اللوحات.
وتأتي المساحات السوداء في لوحات الرفاعي الجديدة لتوصد أبواب الحنين والرغبة في العودة. وتؤكّد على أهمية الحضور في “شكلانية” اللحظة وخفتها وفي المكان/ الموطأ بعيدا عن فكرة الوقت واندثار الأمكنة.
ربما لأجل ذلك غاب الحزن وغاب الفرح وغابت المشاعر في معظم اللوحات المعروضة وبقي التشكيل الذي هو لبّ العمل الفني وفكرته.
هل من الممكن تصنيف أعمال الفنان مازن الرفاعي على أنها أعمال تجريدية؟
لا. مطلقا. لأن التجريد غنائية والتجريد إبحار في أثيرية الدنيا وإمعان في تظهير خزعبلات العالم المنظور. لوحاته تميل إلى التجريد فقط لكي تقصي المُشاهد عن عاطفيتها.
ومازن الرفاعي مهندس في العمارة الداخلية، درس الفنون الجميلة في ماسيراتا بإيطاليا والهندسة الداخلية في لبنان، وتأثّرت أعماله الفنية بدراسته تلك. شارك في العديد من المعارض الجماعية وله معارض فردية عديدة في لبنان وخارجه، لاسيما في العاصمة الفرنسية باريس.