ليس دفاعا عن هاندكه.. ولكن ردا على أردوغان

الكاتب الذي بدأ حياته الأدبية بـ”إثارة سخط الجمهور”، وهي مسرحية كتبها عام 1964، ما زال إلى اليوم يثير غضب البعض. ولم يشفع له نيل جائزة نوبل للآداب عام 2019، بل دفع ذلك أعداءه إلى تسليط المزيد من السخط، انصب عليه وعلى الجائزة السويدية الأشهر في العالم.
ما من شك في أن الكاتب النمساوي، بيتر هاندكه، يجيدُ صناعة الأعداء. وكان قد لفت الانتباه إليه قبل صدور روايته الأولى في مطلع عام 1966، خلال اشتراكه في اجتماع لجماعة 47 في برينستون، وبعد قراءات ومداخلات للكتاب المشاركين استمرت ساعات، تكلم هاندكه فأعرب عن اشمئزازه من كتاباتهم، وتلا كلمة مليئة بالشتائم المطولة، تحدث فيها عن ضعف الوصف عند الكتاب، ولم يسلم منه النقد الأدبي أيضا، ليقول عنه “إنه سخيف مثل هذا الأدب السخيف”.
الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، آخر الساخطين الذين انضموا إلى جوقة المنتقدين لبيتر هاندكه، واصفا إياه بأنه ممثل “مجموعة مثقفين مصاصي دماء”، ومنحه الجائزة يكشف وجود هذه المجموعة.
شتائم أردوغان للكاتب أعقبت منحَ الكاتبِ النمساوي هاندكه جائزةَ نوبل للأدب. واعتبر أردوغان أن التتويج يعدّ مكافأة على انتهاكات حقوق الإنسان، وذلك على خلفية الانتقادات الموجهة إلى الكاتب بسببه دعمه للزعيم الصربي الراحل، سلوبودان ميلوسوفيتش.
وتسلم هاندكه الثلاثاء الماضي الجائزة التي تبلغ قيمتها تسعة ملايين كرونة (935 ألف دولار)، بينما شارك المئات في وقفتين احتجاجيتين بستوكهولم.
وقال أردوغان إن “تقديم جائزة نوبل للأدب إلى رجل عنصري ينكر الإبادة الجماعية في البوسنة، ويدافع عن مجرمي الحرب، في العاشر من ديسمبر، الذي تزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ليس له معنى سوى أن اللجنة منحت هاندكه جائزة لانتهاكات حقوق الإنسان”.
وضمت تركيا صوتها إلى ألبانيا وكوسوفو وكرواتيا في مقاطعة مراسم تسليم جوائز نوبل احتجاجا على اختيار الأكاديمية لهاندكه (77 عاما)، الذي أعلن صراحة عن دعمه لميلوسوفيتش وألقى كلمة في جنازة الزعيم الصربي الراحل عام 2006. وكان ميلوسوفيتش قد توفي أثناء محاكمته أمام محكمة جرائم الحرب التابعة للأمم المتحدة.
نفهم أن تعلن صحافية سويسرية، هي كريستينا دوكتريه، قرارها إعادة ميدالية نوبل، التي سبق أن حصلت عليها تقديرا لجهودها ضمن فريق صحي تابع لقوات حفظ السلام الأممية عام 1988؛ احتجاجًا على منح الجائزة هذا العام لكاتب ينكر الإبادة الجماعية في البوسنة، ويعرب دائما عن إعجابه بالزعيم الصربي السابق.
ونفهم أيضا أن يعلن بيتر إنغلوند، عضو الأكاديمية السويدية التي تمنح جوائز نوبل، الذي امتنع هو الآخر عن المشاركة في احتفال تسليم الجائزة لهاندكه، قائلا إن مشاركة مثل هذه ستكون شكلا من أشكال “النفاق”.
ولكن، الشيء الذي لا يمكن أن نفهمه هو غضب الرئيس التركي أردوغان.
يرفض أردوغان، ومعه الحكومة التركية، الاتهامات التي تحمّل الدولة العثمانية المسؤولية عن مذابح الأرمن، ويرفض أصلا الاعتراف بحدوث تلك المذابح، ويشكك في ما أسماه “المعلومات الخاطئة والتعريفات المغلوطة”، التي جاءت على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ويطالب الإدارة الأميركية بالتخلي عن تبني “توصيف أحادي الجانب للتاريخ، واعتماد نهج يأخذ بعين الاعتبار معاناة جميع الأطراف”.
وتقول تركيا إن الدولة العثمانية كانت تعيش حرباً أهلية وراح ضحيتها أتراك أيضاً. إلا أن الأرمن يقولون إن الدولة العثمانية أبادت نحو مليون ونصف المليون أرمني، خلال الفترة الواقعة بين 1915 و1917.
واعترفت 30 دولة بمذابح الأرمن، منها فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولتوانيا وبلغاريا وهولندا وسويسرا واليونان والأرجنتين وأوروغواي وروسيا وسلوفاكيا والنمسا. وانضمت إلى تلك الدول الولايات المتحدة مؤخرا.
وبحسب روايات الأرمن، فإن القوات العثمانية استهدفت أسلافهم من خلال القتل والاعتقال والتهجير، بالإضافة إلى التعذيب والاغتصاب ومصادرة الممتلكات. ويصف المؤرخون مذابح الأرمن بأنها “أول عملية إبادة جماعية في القرن العشرين”.
هاندكه، رفض بدوره اعتبار الصرب رمزا للشر المطلق، وعاد من زيارته ساحة المعارك عام 1995، بعد أشهر من مذبحة سربرنيتسا، بكتاب عنوانه “رحلة شتوية نحو أنهار الدانوب والسافا والمورافا والدرينا”، طالب فيه بإنصاف الصرب، مدعيا أنهم إنما ردوا على عمليات استفزازية.
ورغم حملة الإدانة العالمية التي طالته، لم يتراجع هاندكه عن موقفه، ولم يثنه النقد عن السفر، في مارس 2006، إلى بوزاريفاك، لحضور جنازة ميلوسوفيتش، الذي توفي خلال محاكمته بتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، حيث ألقى خطبة قال فيها “أعرف أني لا أعرف. لا أعرف الحقيقة، ولكني أنظر، وأسمع، وأحس، وأتذكر. لهذا حضرت اليوم، لأكون قرب يوغسلافيا، قرب صربيا، وقرب سلوبودان ميلوسوفيتش”.
ولم يمض أسبوع حتى صرّح للجريدة الألمانية فوكوس، بقوله “كلا، ميلوسوفيتش ليس دكتاتورا ولا يمكن وصفه بسفاح بلغراد، ورحلتي كانت غايتها الأساسية أن أكون شاهدا، شاهدا ليس بمعنى الاتهام، ولا بمعنى الدفاع”.
وفي رده على جريدة لوموند عن موقفه من مذبحة سربرنيتسا، أجاب “للحديث عنها، ينبغي إيجاد الوقت المناسب. ينبغي أن ينصت الطرف الآخر أيضا، وألا يتحول الحديث إلى خصام أيديولوجي.. وكما يقول غوته في مسرحية ‘توركواتو تاسّو’، ينبغي أن تدور عجلة من الألم والبهجة في الصدر. عندئذ، يمكن أن نتحدث عما حدث”.
لا نريد أن ندافع عن هاندكه، الذي أنصفته لجنة نوبل. الجائزة اعتراف، حتى ولو كان مثيرا للجدل، بقيمة إنتاجه الأدبي. والكاتب لم ينكر المذابح التي حصلت، ولكنه رفض أن يحمّل الصرب وحدهم المسؤولية عنها.. بالنسبة إليه كلا الطرفين، البوسني والصربي، يتحملان مسؤولية ما جرى.
أما الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فراح يرمي هاندكه بالحجارة ونسي بيته الزجاجي. أنكر مذابح الأرمن، التي ارتكبها أجداده، وساهم، وما زال يساهم، إلى اليوم بمذابح ترتكب في دول الجوار.