ليالي الأنس تتحوّل من فيينا إلى دمشق بصوت وعد البحري

الفنانة السورية وعد البحري قدّمت بصوتها عشرين أغنية لأسمهان في المسلسل الذي حمل اسم الراحلة لتنطلق مسيرتها الفنية عربيا.
الاثنين 2021/09/20
صوت أنيق يجمع بين الشجن والطرب

كتب الناقد الموسيقي المصري الراحل كمال النجمي في أسمهان “هي الحاجز الصوتي الذي لم تستطع مطربات عصرنا اجتيازه حتى الآن، إنهنّ يقفن وراءها بمسافة كبيرة“. أسمهان رغم حياتها القصيرة التي مرّت كالشهب، تركت بموهبتها الفذّة تاريخا فنيا خالدا، وباتت اسما حاضرا في سماء الفن العربي عموما يقدّم حتى الساعة في كبريات دور الفن في الوطن العربي.

دمشق- في لجّة البحر العاصف ذات ليل أنجبت الأميرة علياء المنذر ابنتها، وسط صخب الأنواء وتماوج السفينة في لحظات رعب وقلق وهي تبحر من تركيا إلى الساحل الشامي. 

كانت آمال الأسرة أن تنجو من العاصفة بأمان، وهذا ما كان، فسمّت ابنتها الوليدة آمال، وهو الاسم الذي حملته هذه الطفلة التي كانت حياتها القصيرة تراجيدية وقاسية. بدأتها بولادة في البحر وأنهتها بوفاة في النهر.

عاشت آمال حياة صعبة في مصر، حيث لجأت إليها مع والدتها وأخويها من سوريا، وكابدت فيها ضروب الحياة وشظف العيش. وكبرت وصارت فتاة تمتلك جمالا وصوتا ساحرين. سمعها موسيقي مصري كبير هو داود حسني، فسماها أسمهان تيمّنا بمغنية موهوبة مصرية ماتت في ريعان الصبا. وكانت تلك المحطة التراجيدية الثانية في حياتها. 

قرأ لها عرّاف ذات مرة أنها ستعلو كثيرا بين الناس وستنجب مرة واحدة وتموت شابة. وهو ما كان، إذ أنجبت أسمهان بنتا واحدة من ثلاث زيجات وماتت في عامها الثاني والثلاثين غرقا في ترعة ماء في النيل وفي يوم ميلاد ابنتها. وكانت تلك ذروة فجائع التراجيديا التي حاصرتها.

عدنان فتح الله: تكريم أسمهان جزء أساسي من مشروعنا الغنائي الوطني

لم يكن عمر أسمهان الفني طويلا، لكنها رغم ذلك تركت إرثا فنيا عظيما، تعاملت مع كبار شعراء وملحني عصرها، غنّت من شعر وزجل أحمد شوقي وأحمد رامي وبيرم التونسي وكامل الشناوي. كما لحّن لها كبار موسيقيي عصرها أمثال داود حسني ومحمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبدالوهاب ومدحت عاصم. وشكّلت مع شقيقها الموسيقار فريد الأطرش ثنائيا فنيا لا يتكرّر.

عملت في السينما وقدّمت فيلمين فقط، أولهما مع شقيقها فريد الأطرش تحت عنوان “انتصار الشباب”، والثاني جاء تحت عنوان “غرام وانتقام”، حيث ماتت دون أن تتمّه. كُتب عنها الكثير وأنجز عام 2008 مسلسل شهير حمل اسمها من تأليف سعيد أبوالعينين وقمر الزمان علوش وأخرجه التونسي الراحل شوقي الماجري وقدّمت شخصيتها سلاف فواخرجي، وحقّق العمل نجاحا هائلا. 

في ذلك العمل قرّرت جهة الإنتاج ألاّ تستخدم تسجيلات صوتية لأسمهان، بل أن تقوم بتقديم هذه الأغاني إلى شابة سورية ناشئة اسمها وعد البحري، وهي ابنة منطقة السويداء السورية التي هي مسقط رأس أسمهان ذاتها، وكأنّ الزمن يُعيد نفسه، وقدّمت البحري هذه الأغنيات وحقّقت من خلالها نجاحا مدويا .

وريثة الفن

بعد ما يقارب الستين عاما على ولادة أسمهان في منطقة السويداء السورية ولدت في المنطقة ذاتها فنانة شابة جديدة تنهل من فن وإبداع أسمهان الكثير؛ وعد البحري، كانت تلك الفتاة التي امتلكت صوتا ساحرا وقادرا. 

بدأت الغناء منذ سن الرابعة، وكانت تغني لكبار المطربين العرب، لكن علاقة وجدانية ومكانية ربطتها بأسمهان، فأدّت أغانيها بالكثير من التماهي والوجد. وشاركت البحري في العديد من الفعاليات الموسيقية والغنائية في سوريا وخارجها في بدايتها الفنية، وكانت مرحلة مليئة بالعثرات. لكن سنحت لها الفرصة عندما تم إشراكها في مسلسل “أسمهان” وأدّت فيه الشابة كل أغاني العمل التي تجاوزت العشرين.

كانت مسؤولية كبرى أن تتصدّى للعمل وهي لا تزال مبتدئة بالفن، لكنها خرجت من التجربة منتصرة وصلبة، وراج فنها في كل أنحاء العالم العربي وارتبط اسمها بالفن الأصيل وخاصة ما قدّمته أسمهان.

وضمن مشروع التكريم الذي تقدّمه الفرقة الوطنية السورية للموسيقى العربية بقيادة المايسترو عدنان فتح الله، قُدّم مؤخرا في دار أوبرا دمشق حفل تكريمي حمل عنوان “تحية إلى أسمهان” أنشدت فيه وعد البحري مجموعة من أهم ما غنت أسمهان عبر مسيرتها الفنية.

وعن التكريم يقول المايسترو فتح الله “تكريم أسمهان جزء أساسي من مشروعنا الفني الوطني، كونها صاحبة أثر كبير في الغناء العربي، والتكريم فرصة لما نطمح إليه في إلقاء الضوء على قاماتنا الإبداعية الكبيرة التي نعتزّ بها، ووعد البحري فنانة قادرة على تقديم أصعب الألحان، والفرقة بكل كوادرها قدّمت الكثير من الجهد لإنجاح الحفل“.

ويحمل الجمهور السوري الكثير من التقدير للفنانة أسمهان ويعتبرها درة الفن السوري، ويحمل تقديرا خاصا للفرقة الوطنية السورية للموسيقى العربية التي قدّمت عبر سنوات الكثير من الحفلات التي لاقت صدى طيبا وعزفت مرافقة لكبار المطربين العرب منهم صفوان بهلوان وعفاف راضي وآخرون.

تحية إلى أسمهان

هذا ما ترجمه تهافت الناس على شراء تذاكر الحفل التي نفدت قبل أسبوع من إقامته، والذي بدأ بأغنية “يا حبيبي تعال إلحقني” التي أخذت عن أغنية كوبية قديمة، وضع كلاما مناسبا لها المخرج أحمد جلال وغنتها زوجته الممثلة في أحد الأفلام قبل أن تغنيها أسمهان، وصاغ لها التوليفة الموسيقية العربية الموسيقار مدحت عاصم الذي كان مطلعا على الموسيقى العالمية.

ثم قدّمت أغنية “أهوى” التي كتبها مأمون الشناوي ولحنها فريد الأطرش وظهرت في فيلم “انتصار الشباب”. هذه الأغنية وجدت كما قال كاتبها الشناوي بالصدفة عندما دخلت إلى مكتبه وهي غاضبة بسبب تأخّره في كتابة الزجليات المتفق عليها لصالح الفيلم. وعندما أخبره السكرتير بأنها في مكتبه وهي غاضبة طلب منه أن يهدّئها ويطلب لها القهوة، وما هي إلاّ لحظات حتى لاحت الفكرة وبدأ يكتب “أهوى يا مين يقلي قهوة أسقيه بأيدي قهوة”.

ثالثة الأغاني كانت “امتى ح تعرف” التي كتبها الشناوي ولحنها الموسيقار محمد القصبجي والتي تميّزت بانسيابية وسلاسة، ومع أغنية “دخلت مرة جنينة” التي كتبها عبدالعزيز سلام ولحنها مدحت عاصم ذهب أداء الفرقة بالجمهور إلى جو تصويري مختلف، حيث الموسيقى الهادئة والأجواء الرصينة التي تحاكي مضمون الكلام بشكل مختلف، بعيدا عن الصيغة التطريبية التقليدية.

الأغنية التالية كانت “نويت أداري آلامي” التي كتبها يوسف بدروس ولحنها فريد الأطرش، ثم الأغنية الشهيرة التي كتبها بيرم التونسي ولحنها محمد عبدالوهاب وهي “ما أحلاها عيشة الفلاح”، ثم الأغنية الشهيرة والصعبة “يا طيور” من زجل يوسف بدروس وألحان محمد القصبجي والتي قدّمت فيها البحري جهدا مضاعفا، كون اللحن يتطلب مهارات خاصة في الغناء الأوبرالي السوبرانو.

بعد ستة عقود من ولادة أسمهان في السويداء، تولد في المنطقة ذاتها وعد البحري لتشدو من سجل ملهمتها

في لحن “يا طيور” استلهم القصبجي أجواء موسيقى الفالس للموسيقار يوهان شتراوس، واستطاع به إيجاد مزج عربي غربي راق احتلت فيه الموسيقى العربية وجودا حقيقيا في مزاج موسيقي غربي مدروس، وكان عملا يصنّف ضمن المونولوغ الرومانسي، وهو العمل العربي الأول الذي تم تأليفه كاملا على نمطٍ خلقَ تكاملا فنيا بين الموسيقى الشرقية والغربية.

وكانت المحاولات قبله خجولة وإن تمت ففي المقدّمات الموسيقية فحسب، ويعتبر العمل مبتدأ الأغنيات التي وضعت الموسيقى إلى جانب الغناء كعنصرين متكاملين، إذ جرت العادة أن تكون الموسيقى في الغناء العربي خلف الغناء الذي هو الأهم.

ثمّ تم تقديم اللحن الطربي الشفاف الشهير “يلي هواك شاغل بالي” من زجل أحمد رامي وألحان فريد الأطرش، وكان مسك ختام الحفل باللحن الأشهر “ليالي الأنس في فيينا”، وهو من زجل أحمد رامي وألحان فريد الأطرش، وفيه تتمايز الألحان والإيقاعات، حيث يتجاور إيقاع الفالس مع الإيقاعات الشرقية التطريبية، وذهبت الأغنية نحو التصويرية من حيث استلهام أجواء الرقص التي كانت موجودة في الفيلم، وهي تعدّ درة عمل الثنائي أسمهان وفريد الأطرش.

كان تفاعل الجمهور كبيرا مع الأداء الذي قدّمته الفرقة والمطربة، إذ بدت وعد واثقة من أدائها وحيوية في حركتها على المسرح ومتناغمة إلى حد بعيد مع الفرقة التي كانت هادئة ورصينة وهي تواكب غناء وعد في أدق المراحل وأصعبها. تجلى ذلك في آخر الأغاني التي قدّمت “ليالي الأنس في فيينا”، حيث تحرّرت المطربة من سطوة الحضور الأوبرالي، فتخلّت عن منصة المايكروفون وكذلك النوتة، لتمسك الميكروفون بيديها وتتحرّك على المسرح بعيدا عن مكانها الأصلي وهي تغني لبلدها “ليالي الأنس في سوريا” وسط تصفيق حار من الجمهور الذي تجاوب معها إلى أقصى درجات التجاوب.  

17