ليالي ابن آوى.. قصيدة سينمائية قادمة من قرى الساحل السوري

عبداللطيف عبدالحميد شاعر السينما السورية أم عرّابها المنفرد بالامتيازات.
السبت 2021/08/14
عبداللطيف عبدالحميد عرّاب السينما السورية

لا يمكن للمتفرج المحلي أن ينزع نحو الحياد وهو يتابع شريطا صنعه أحد العلويين عن العلويين وينطق بلهجتهم، مؤسسا لتيار جديد في السينما السورية، يعتمد لغة سينمائية ساحرة تتسم بالبساطة والشفافية، دفعت السينمائيين والنقاد للقول إن عبداللطيف عبدالحميد فنان لن تغرب شمسه.

أسرة سورية فقيرة متكونة من خمسة أفراد تعيش على الزراعة في جبال الساحل السوري في ستينات القرن الماضي، وبالتحديد قبيل حرب الأيام الستة المعروفة بنكسة 1967.

أب متسلط إلى حد الجبروت (الممثل أسعد فضة)، يتفانى في تعنيف أبنائه بقصد التأديب إلى حد الانتقام، ويبتكر لذلك طرقا غريبة تثير الاشمئزاز وتصل إلى الضحك أحيانا.. وهو ما يكسب الحكاية طابع الكوميديا السوداء رغم إغراقها في الواقعية على الطريقة الروسية في الفترة السوفياتية حيث درس مخرج الفيلم ومؤلفه عبداللطيف عبدالحميد.

بيئة معبأة بالخوف

زوجة دائمة الصمت والطاعة (الممثلة نجاح العبدالله) تنفّذ تعليمات زوجها وأوامره دون نقاش، تعمل معه في الأرض نهارا، وتساعده على النوم ليلا عن طريق إطلاق الصفير من فمها كي تبعد قطعان بنات آوى وتسكت صياحهم الذي يمنع زوجها من النوم.

الزوج أبوكمال، وعلى الرغم من عنفه وجبروته الظاهر، يخفي شخصية هشة، ولا يتقن حتى إطلاق الصفير كي يسكت عواء تلك القطعان التي تفسد نومه ليلا فيستعين بزوجته التي يوقظها من نومها في كل مرة كي تطلق صفيرها.

فيلم هشّم الصورة النمطية للبيئة العلوية وارتباطها بالسلطة

وسط هذه البيئة المحتقنة والمعبأة بالخوف والعنف، وفي مواجهة واقع يرزح تحت الفقر والأمية، تتحدد مصائر أفراد هذه الأسرة التي تحكمها بطريركية ظالمة.

الابن البكر (الممثل محسن غازي) يجد في مدينة اللاذقية ملجأ للهروب من سطوة الأب في القرية فيستأجر غرفة بتعلة الدراسة إلا أنه يغرق في مغامراته ونزواته الجنسية مع بائعات الهوى. وحين يكتشف أبوه الأمر تبدأ سلسلة انكساراته.

أما الابن الأوسط (الممثل بسام كوسا) الذي يساعده في الزراعة فيضبطه بين أحضان جارته (الممثلة عزة البحرة)، ويعاقبه بطريقة قاسية لا ينقذه منها سوى قدوم الشرطي لتبليغه بضرورة الالتحاق بالجيش، وعندما تقع حرب 1967، يلتصق أبوكمال مع المذياع ليتابع أخبار الانتصارات الوهمية قبل أن يكتشف الحقيقة المرة ويسقط الجولان وباقي فلسطين.. فيقرر إحراق حقله كي لا يصل إليه الأعداء.

ولا تبدو النماذج النسائية أفضل حالا كما يقول أحد نقاد الفيلم، فالزوجة التي ترى ضعف زوجها في الليل أمام عواء ابن آوى، وجبروته على أولاده في النهار تظل قليلة الكلام تلوك صمتا دفينا، والابنة الكبرى تتزوج في سن مبكرة، وتساق إلى بيت زوجها الذي لا تحبه لتعيش حياة كئيبة، والابنة الصغرى تهرب مع جار ضعيف الشخصية وجبان ولا همّ له إلا التغني ببقرته.

نهاية تراجيدية

تموت أم كمال من صدمة استشهاد ابنها في المعركة.. الأب القاسي المتجبر يدمن الهزائم ولا يجد أمامه سوى ابنه الصغير وهو يحاول أن يقف إلى جوار أبيه.

نهاية تراجيدية لأب متغطرس يختفي من حوله ضحاياه ويتركونه لعواء بنات آوى وسط الرعود والأنواء وهو يحاول أن ينفخ في صفارات بلاستيكية كان اشتراها من السوق لإبعاد العواء دون جدوى.. هيهات لقد ماتت الزوجة الخانعة التي كانت تؤمّن للزوج المتجبّر نوما هانئا بمجرد وضع أصبعيها في فمها والنفخ لإحداث صفيرا يبعد تلك القطعان.

مصير كارثي انتهى إليه ذلك الطاغية.. سؤال طرحته العديد من الإسقاطات والتفسيرات للفيلم ببعده الرمزي وهو ما قد يغضب أبناء الطائفة العلوية في سوريا، والتي تشتكي من هذا الإجحاف المبالغ فيه في ربط مصيرها بالسلطة، فهي تعيش على مبدأ المواطنة وليس الولاءات الطائفية، كما أنه من غير المعقول وضعها في سلة واحدة وتحت يافطة موحدة، فهي مثل كل مكونات المجتمع السوري فيها الموالي وفيها المعارض، البسيط والمثقف، المنتفع الانتهازي والنظيف الشريف بل وثمة منها من يعاني الفقر والحرمان أكثر من المتاجرين بالوطنيات، والمنغمسين في وحل الطائفية باسم المعارضة.

حكم البابا: دعوة للتطبيع مع اللهجة العلوية وإخراجها من عزلتها

فيلم "ليالي ابن آوى" أنتجته المؤسسة العامة للسينما عام 1989 وهي القطاع الإنتاجي العام والوحيد تقريبا في سوريا الذي يصنع أفلاما بمواصفات احترافية تمكّنها من المشاركة في المهرجانات، لكن إنتاج هذه المؤسسة لا يتعدى الفيلمين في العام، وسط روتين إداري مقيت وحديث عن محاباة ومحسوبيات شملت المخرج عبداللطيف عبدالحميد، نفسه، والذي وصف بالابن المدلل للمؤسسة لنيله حصة الأسد من إنتاجها الشحيح.

يثير هذا الفيلم الروائي الأول لصاحبه الذي كان قد تخرّج لتوه في إحدى المدارس السوفياتية وتأثر بأساطينها الكبار، الجدل في قراءاته وتأويلاته حيثما عرض.

أول هذه التأويلات هو أن أحداث الفيلم تدور كلها في بيئة جبال العلويين وتنطق بلهجتهم التي ارتبطت لدى المواطن السوري بأقبية المخابرات ولغة الجيش، إذ لا يمكن للمتفرج المحلي أن ينزع نحو الحياد وهو يتابع شريطا صنعه أحد العلويين عن العلويين بكل تفاصيل حياتهم الاجتماعية ـ لا العقائدية ـ داخل قراهم النائية، وقبل استلامهم السلطة.

أما السؤال المتعلق بالرقابة وكيفية السماح بعرضه فقد أثار ردات فعل وتفسيرات متعددة ومتباينة من شخصيات نقدية وإعلامية محسوبة على الموالاة أو المعارضة.

فلليني السينما السورية

الصحافي والدبلوماسي السوري علي عبدالكريم علي، عبّر عن غضبه من الفيلم قائلا إنه يشوّه البيئة العلوية ويعريها بطريقة "تثير السخرية منّا وتجعلنا أضحوكة لدى الآخرين"، أما كاتبان معارضان مثل محمد منصور وحكم البابا فقد ربطا هذا النجاح الجماهيري للفيلم بكونه يدعو "للتطبيع" مع اللهجة العلوية وإخراجها من عزلتها المجتمعية لكونها ارتبطت بالسلطة. هذا بالإضافة إلى رضى الرئيس الراحل حافظ الأسد عن الفيلم في عرض خاص.

علي عبدالكريم علي: الفيلم يشوه البيئة العلوية ويعريها بطريقة تثير السخرية

ويروى في صحيفة عربية أن وزيرة الثقافة آنذاك نجاح العطار نظّمت عرضا خاصا للرئيس حافظ الأسد لمشاهدة فيلمين أنتجا في وقت متقارب ويتناولان البيئة العلوية. الفيلم الأول "نجوم النهار" لأسامة محمد، قيل إن الأسد كان متجهما وهو يشاهده طوال الوقت، وعندما انتهى لم ينطق بكلمة. فقررت الوزارة منعه من العرض الجماهيري. أما الفيلم الثاني فقد ضحك الرئيس الراحل وابتسم في أكثر من موقف، فتم الإفراج عنه وعرضه، وأتيحت فرصة أخرى لمخرجه لإنجاز فيلم آخر بعنوان "رسالة شفهية" بعد عامين فقط من ظهور الفيلم الأول. ثم كرت السبحة ليصبح المخرج عبداللطيف عبدالحميد أكثر المخرجين الذين حصدوا فرص إنجاز أفلام في تاريخ إنتاج المؤسسة العامة للسينما الشحيح كما هو معروف.

ومهما يكن من أمر فإن "عرّاب السينما السورية" هو اللقب الذي يُطلقه بعض النقاد على المخرج والمؤلف عبداللطيف عبدالحميد، فيما يرى آخرون أنه يرتقي إلى مصاف المخرجين العالميين الأكثر شهرة مثل الإيطالي فيدريكو فيلليني، والبوسني أمير كوستاريكا.

ويجمع النقاد على أن عبدالحميد خلق أسلوبا جديدا في السينما السورية، ويصف البعض أفلامه بـ"السيمفونية" لاعتماده على البساطة والشفافية، منها هذا الفيلم الذي يوصف بأنه فيلم المليون مشاهد، وقد سبق لروسيا السوفياتية أن اشترته بمبلغ فاق حجم تكاليف إنتاجه.

اختلفت آراء النقاد في أفلام عبداللطيف عبدالحميد الذي لا يميل كثيرا إلى الحوارات الصحافية وإعطاء التصريحات، لكن الرجل يعمل بنشاط وشغف قل نظيره عند غيره حتى وإن أعطي نفس الامتياز والفرصة في الإنتاج، ثم إنه من غير العدل ولا المنطق الحكم على عمل فني وفق خلفيات سياسية وطائفية، وعلى أساس التخمينات والولاءات والاصطفافات .

وفي هذا الصدد يقول الكاتب والناقد السوري محمد منصور "لا أقصد بهذه الملاحظة الغمز من رضا السلطات على المخرج عبداللطيف عبدالحميد على طول الخط، إذ أذكر في تسعينات القرن العشرين وكنت أعدّ تقارير نقدية لبرنامج 'مجلة التلفزيون' في التلفزيون السوري، وكان أحدها يتحدث عن تنوع اللهجات في الدراما السينمائية والتلفزيونية السورية على ما أذكر، أن مخرجة البرنامج وهي تنتمي لذات البيئة، حذرتني من أن أستشهد بمقاطع من فيلمي "ليالي ابن آوى" و"رسائل شفهية"، لأن مدير التلفزيون آنذاك السيد علي عبدالكريم علي لا يحب هذه الأفلام، وأعطى توجيها شفهيا بعدم عرض مقاطع منها في برامج التلفزيون لأنها على حد تعبيره 'ضحّكت العالم علينا'..".

النماذج النسائية أفضل حالا فالزوجة التي ترى ضعف زوجها في الليل وجبروته على أولاده في النهار تظل قليلة الكلام تلوك صمتا دفينا

ويضيف منصور المعروف بمعارضته لنظام الحكم في سوريا، مستدركا "ولو أخذنا كلامه كمقياس لأمكن للدمشقيين أن يكرهوا دريد لحام ونهاد قلعي ويطالبوا بمنع مسلسلاتهم الكوميدية لأنها تتخذ من البيئة الدمشقية محدّدة الملامح واللهجة واللباس والمكان مناخا لإضحاك العالم أيضا".

السمة الغالبة في أفلام عبدالحميد هي تلك المناخات الكوميدية التي تصنعها العفوية والبساطة، بالإضافة إلى تلك الشاعرية الآسرة الممزوجة بالضحكة المنفلتة من مشهد تراجيدي، وهو أسلوب السينما الروسية الذي استفاد منه المخرج وطوّر من خلاله موهبته المتأصلة في طبعه ومزاجه بالنسبة إلى من عرفه عن قرب.

فنان لم تغرب شمسه

الشخصية الريفية حاضرة بكل قوة في أفلام عبدالحميد، حتى وإن كانت المدينة وأطرافها حاضنة لأحداث أفلامه الأخرى مثل "صعود المطر" و"نسيم الروح". وهذه ميزة تحسب للمخرج الذي ظل ملتصقا بمحيطه وطرح معاناة شخصياته بعيدا عن النظرة النمطية والمعالجة السطحية.

حياة هذا السينمائي السوري الذي ولد عام 1954 فيها الكثير من الدراما، وقد عرف كيف ينطلق منها نحو أفلام تستعيد جزءا من ذكرياته، فحقق انتشارا واسعا، ثم بطريقة مواربة، كنوع من الاحتيال المشروع على الرقيب، خاض في خلفيات المعتقلات السياسية وقدّم ما يشبه التحية لمعتقلي الرأي في فيلم "خارج التغطية" (2007)، إضافة إلى تجارب كثيرة تثبت بأن الرجل يتنفس سينما وهذا الفن هو قدره الأبدي.

وسام كنعان: عبدالحميد ساحر يقبض على القلوب بضربة واحدة

وفي هذا الصدد يقول الناقد الفني وسام كنعان "فعليا هو يقول للعالم بأنّه موجود يتحدى الحرب، وينجز سينما بأبسط الميزانيات في سنواتها العجاف. لكن النتاج أقل هيبة مما كان عليه بالأمس. ربما لم يعد ذاك الساحر الذي يقبض على قلوب الجمهور بضربة واحدة، ويجعله يلحق به حتى عندما تعيد الفضائيات تقديم أفلامه".

عبداللطيف عبدالحميد فنان لم تغرب شمسه وسط هذه الحشود الهائلة من العاملين في القطاع السينمائي كما أنه دائم التجديد، مما يجعله محط إعجاب كل الفئات العمرية والحساسيات الفنية لما تتميز به عدسته بالنقاء والعفوية في بيئة لم يجهّز لها ديكورات مصطنعة وإنما يختار مواقع تصوير وكأنها خلقت لتكون خلفية أحداث فيلمه.

كل هذه العوالم الساحرة في فيلم "ليالي ابن آوى" يؤسسها ويحركها ممثلون كبار من حجم أسعد فضة، نجاح العبدالله، بسام كوسا وتولاي هارون. ولم يغفل عبدالحميد عن تطعيم شريطه بممثلين بعيدين عن البيئة العلوية ويتميزون بالكفاءة الفنية مما يقيم الدليل على أن ما يهم الرجل هو صناعة فيلم وليس مجرد الحديث عن البيئة العلوية.

ولا بد من الإشارة إلى أن فيلم "ليالي ابن آوى" أعلن ولادة الكوميديا في إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا التي ظلت لسنوات عديدة تنتج أفلاما مكفهرّة ومتجهمة باسم الجدية والالتزام.

أدخل عبدالحميد نفسا جديدا لصناعة الفن السابع في سوريا، وجعله يتخطى المحظورات إذ يرجع له الفضل في جعل لهجة قرى الساحل السوري سلسة لدى المتلقي وغنية بالشاعرية والشحنات الدرامية بعيدا عن الوقع والانطباع المرتسمين في الذهنية العامة حول التصاقها بلغة العسكر وإصدار الأوامر، وإن كان المخرج المؤلف منتبها لهذا الأمر من خلال شخصية العسكري البسيط، والمخدوع أحيانا بشعارات التعبئة السياسية والدعاية الأيديولوجية.

سايكولوجيا العنف وتداعياته هي أهم ما يميز الفيلم رغم طابعه الكوميدي، إذ يتشظى السلوك البطريركي التسلطي في الكوميديا السوداء كمفتاح سحري لأيّ عمل درامي يريد أن يجد طريقه إلى قلوب الجماهير الواسعة.

16