لوحات كابوسية تحاول استيعاب الموت في المنطقة العربية

ينظر الفنان السوري نزار صابور إلى الموت المنتشر في سوريا والمنطقة العربية بالكثير من الانتباه، حتى أنه يعيد تصويره بألوانه المتغيرة بتغيّر حالته المزاجية، فيحمي بلوحاته الذاكرة الجماعية، ويلوّن آفاقها المنفتحة على حياة أجمل وانبعاث جديد.
تقدم صالة كاف اللبنانية حتى عشرين يونيو معرضا فرديا للفنان التشكيلي السوري نزار صابور تحت عنوان “حارس الذاكرة”. ويضمّ المعرض أربعين عملا فنيا من المقاييس الصغيرة، تعالج عدة مواضيع يمكن وصفها بأنها مترابطة في عمل الفنان ونذكر منها حقل الزيتون، والأيقونات المعاصرة، والمدن الشرقية، والهجرة.
عندما يُذكر اسم الفنان التشكيلي السوري نزار صابور أول ما يتبادر إلى الذهن، هو عالم فيه معالم زمن مشرقي غابر، لكنه حاضر كمكان أسطوري فضفاض يرتدي كل زمان بغباره وأزيزه وطنين نحله الأبيض.
وإن أردنا العودة إلى سيرة الفنان منذ الثمانينيات من القرن الفائت، كما لا مهرب من ذلك حينما تكون الكتابة عن فنان له باع طويل في التشكيل، يمكن اعتبارها سيرة تشبه مخطوطة بصرية وسحرية حملت بصمات زمنها دون أن تكون مرآة له. ويُذكر باختصار شديد انتقاله من إنجاز أعمال فنية مستوحاة من سيرة عنتر وعبلة واهتمامه بفن الواسطي وعشقه لتاريخ بلده والمنطقة العربية بأساطيرها وأيقوناتها وشعرها وآثارها، إلى غاية وصوله لزمن شكل شرخا كبيرا في مساره الفني إذ أخذ منحا جديدا استلهم مشاهده من المأساة السورية بشكل خاص وصولا إلى مآسي المنطقة بشكل عام.
صابور يرسم اللوحات وكأنها أيقونات حضرت فيها الصحون هالات قداسة مكتملة البيان والإحالات الشعرية والعاطفية
أما اليوم فيهدينا الفنان أعمالا فنية مُبلسمة، بكل ما تعني الكلمة من معنى. فالفنان الذي قدم مجموعة لوحات كابوسية تحمل العناوين التالية “محاولات لتفسير الحرائق” و”محاولات لتفسير الخراب” التي في حقيقتها لم تكن إلا محاولة الفنان لاستيعاب الموت الذي عمّ وطنه وطغى على جميع الأصعدة هو اليوم “يبتسم” ابتسامة لا تخلو من الحزن ومن غبار وسخام ما حدث ولا يزال يتنفس كبركان هامد ومتعب من كثرة انفجاراته هنا وهناك من دون ضجيج يُذكر.
غالبا ما يكون أي تبدل في الخامة اللونية هو أول ما يشير إلى تغيير ما في مزاج الفنان وفي تعبيره عن فكرة دون أخرى غير أن هذا ليس أول وأكثر ما يلفت الانتباه في أعمال صابور ويكشف عن انتقاله إلى مرحلة فنية جديدة متصلة اتصالا وثيقا بالمرحلة التي سبقتها. فأول ما يلفت هي تلك الحقول التي مدها الفنان أمامه وأمامنا في مشاهد هادئة مخصصة للتأمل والتقاط أنفاس قد حبست طويلا في لوحاته السابقة ذات المشاهد المختنقة تحت وابل من جمر تدثر بالرماد وبجفت الزيتون الذي أبدع في استخدامه في لوحاته.
هو اليوم يقدم لوحات لازال فيها السخام حاضرا ولكنه ليس طاغيا فقط، بل هو حاضر ليؤطر خضرة حياة في حقول الزيتون التي تباهت بقدرتها على الاخضرار والعيش حتى في كنف رماد لم يغادرها.
ويحضر اللون الأحمر القاني كما يحضر اللون الأصفر الذهبي ويحضر الأزرق المُشبّع بذاته وإن كانت تلك الألوان قد حضرت في لوحات سابقة له غير أن حضورها اليوم ليس حضورا مُلحقا بباقي الألوان كاللون الأسود واللون الرمادي واللون البني غير الشبيه بلون الأرض النضرة والمُتنفسة والصالحة للحرث.
وتحضر في لوحات صابور الأيقونية (لأن الطبيعة اليوم هي أيقونته وخلاص مدنه الشرقية) الشمس في مراحلها. فهي شمس المومد وشمس العصر وشمس الغروب. ولعل أجمل ما في هذه اللوحات تحديدا السكون الذي يعمها فلا ضعضعة في أعمدتها ولا اختناق في شبابيكها. وثمة أمر آخر بالغ الأهمية ولعله من أقوى ما يجعل مشاهده هذه أيقونة وليست طبيعية فحسب هو ميزة نود أن نسميها سحرية وليس ساحرة: وهي أن الشمس هي شمس المغرب والظهر والعصر في مكان واحد من المشهد. كثف الفنان الزمن ووحّده وقلص المكان ووحد الشروق والغروب وبزوغ هلال الليل ولم يؤد كل ذلك إلى إنتاج مشاهد لنهاية الدنيا وقيام الساعة، بل جعله انتصارا للحياة.
غير أن الفنان لم يجعلنا نسترسل في أفكارنا الإيجابية هنا. فالحزن لا يزال حاضرا وبقوة في لوحاته والمشاهد لم تفقد أي شيء من دراميتها. ولا زال الرمادي يكسو المدن التي رسمها. وقد عنون الفنان إحدى لوحاته بـ “مدن الطيور الميتة” وهي لوحة تخرج من أرض مدنها الطيور وكأنها أنفاس متهدجة.
ونصل هنا إلى لوحات “الهجرة” التي رسمها الفنان وهي عديدة وبأحجام مختلفة. في هذه اللوحات حضر الأبيض والرمادي الفاتح والمساحات المفتوحة وانتشرت فيها شفافية تعد نادرة في لوحاته. نعم، هي لوحات بالغة الشعرية. ونعم هي لوحات تتحدث عن الهجرة. ولكن أية هجرة هي هذه والطيور لا تعرف ولا تقدر إلا على المراوحة والدوران في سماء حزينة؟
ربما هذه هي الهجرة الحقة. فحتى هؤلاء الذين هاجروا المدن المحروقة بألف طريقة لا زالوا هناك فوق سمائها وتغريدهم لن يكون إلا شبيها بصوت الحمام الزاجل الذي لا يعرف إلا أن يئنّ ويعاتب؟
ويقدم الفنان مجموعة لوحات أخرى تتربع على عرش “صحونها” فاكهة البطيخ المحزوز وحبوب الزيتون. رسم الفنان هذه اللوحات وكأنها أيقونات وحضرت فيها الصحون وكأنها هالات قداسة مكتملة البيان والإحالات الشعرية والعاطفية. إنها ملوك الموائد التي لا تنتهي واستحضار لجمعات الأهل والأحباب. ما أقسى الحياة حين يظللها الموت، ولكن ما أطيب مذاقها عندما يصمد الأمل ويورق الحب أخضر رغم السواد.
وتجدر الإشارة إلى أن الفنان التشكيلي السوري نزار صابور ولد في مدينة اللاذقية بسوريا عام 1958، تخرج من كلية الفنون الجميلة – جامعة دمشق في عام 1981، ويدرّس فيها منذ سنوات، وكان رئيسًا لقسم الرسم والتصوير من 2005 حتى 2008، وهو حاصل على دكتوراه فلسفة في علوم الفن من جامعة موسكو عام 1990.
وأقام نزار صابور أكثر من 30 معرضًا شخصيًا داخل وخارج سوريا ولديه الكثير من المشاركات في معارض مشتركة داخل البلد وخارجها، كرم لأكثر من مرة، وأعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة السورية، والمتحف الوطني بدمشق، وقصر الشعب، والمتحف الملكي الأردني، ومتحف البحرين، ومتحف الشارقة، وصالة أوسكار – واشنطن، ومتحف شعوب الشرق – موسكو ضمن مجموعات خاصة، وفي أماكن مختلفة من العالم.
والفنان حائز على جوائز عدة منها: جائزة تشجيعية من بينالي الشارقة الثاني عام 1995، والجائزة الأولى في التصوير الزيتي من بينالي المحبة الأول في اللاذقية في نفس العام، والجائزة الأولى في التصوير في ملتقى دبي العالمي للفنون عام 2004، وجائزة بينالي طهران الدولي عام 2006، وغيرها من الجوائز.