لهذا خسر الإنسان في الشرق الأوسط معركة وجوده

الجنان لا تُبنى إلا بالعلم والعقلانية وبالانفتاح الفكري، لذلك يجب التوقف عن الاستثمار في الخطابات الجوفاء وفي تمجيد الموت وفي ترهيب الناس وسلب حقهم في الحياة وتحويلهم إلى أدوات مدمرة لأنفسهم.
الاثنين 2025/03/24
أجيال محاصرة بثقافة الموت والدمار

في لحظة مفصلية من التاريخ، يقف الشرق الأوسط كجثة لم تُدفن بعد. منطقة بأكملها تتآكل ثقافيًا، قيميًا، تعليميًا، أمنيا، سياسيا واقتصاديًا.

ولأن كل مأساة تبدأ من العقل، فإن مأساة هذه الأرض بدأت منذ قررت أن تستقيل من التفكير النقدي، وأن تكرّس وجودها للحروب والصراعات، بدلًا من بناء الإنسان.

الشرق الأوسط في مرحلة متراجعة ثقافيا وقيميا وتعليميا وهذا يؤثر على واقع أهالي المنطقة. حيث تم الإلقاء بهم عبر بوابة زمنية إلى هاوية حيث النزوح والخيام الهشة، ومعدلات بطالة ومجاعات عالية، وحيث الأمراض والمياه المختلطة بمياه الصرف الصحي، دون أي قدرة على العودة.

ولكن هل هذا أفضل واقع ممكن أن يتم منحه للإنسان؟

المعادلة بسيطة، تتجلى في الآتي: قل لي أين تستثمر نفسك، عقلك، فكرك وطاقتك أقل لك واقعك.

◄ الشرق الأوسط في هاويته الأخيرة، بُنيت جدران جحيمه من الجهل والخرافات والترهيب والقمع والتعصب، ولن تُهدم إلّا بنور المعرفة والحكمة والعقلانية

الانشغال بالحروب والصراعات أدى إلى انهيار اقتصادي وأمني وسياسي وخدماتي واجتماعي وتعليمي وصحي للكثير من الدول، علاوة على وجود عقبات وتحديات كبيرة تواجه تطور المجتمع المدني في هذه المنطقة، إضافة إلى الفساد الإداري المعشش سلفا في هياكلها وعدم وجود بيئة صحية لاحترام وتقبل التعددية الحزبية واحترام كامل المكونات المجتمعية للدول، والاختلافات الدينية، المذهبية، الإيمانية، العقائدية، والفكرية، وغياب فلسفة نقدية وتحليلية في طرح القضايا ومعالجتها، كل ذلك أدّى بها إلى الهلاك والجحيم.

ليست الكارثة فقط في تراجع النظام التعليمي وهشاشة المناهج، بل أيضا تتجلى في غياب الفكر النقدي عن الثقافة العامة وعن رجل الشارع.

لا تستطيع أن تقول لي إن الإنسان العربي مدرب على التفكير، والإبداع والنقد؛ فالأنظمة التعليمية والهياكل الثقافية اعتمدت لعقود على التلقين والقوالب الجاهزة والتكرار، حتى أصبح هناك تكلس فكري في المجتمعات، وانتشر الخطاب الشعبوي فيها. ولم يتم السماح لهذه الشعوب بطرح الأسئلة، بل تمت تنشئتها على الخوف من طرح مثل هذه الأسئلة.

للأسف على مدار فترة طويلة، اعتبرت التعددية الدينية والمذهبية والفكرية تهمة، والاختلاف جريمة، والحلم بالحرية والحقوق انحرافا.

نقطة التحوّل تبدأ من الحكمة والتعقل واتخاذ قرارات تعود بحياة إنسانية كريمة للأفراد، فلا شيء يعادل الاستثمار في التعليم والفكر والصحة والقطاعات الخدمية، لا شيء يضاهي الاستثمار الإيجابي في تطوير البشر، فهم عماد الدول والمجتمعات، لذا من المهم توفير بيئة تسمح للأفراد بالازدهار والحلم وبتحقيق ظروف تساعدهم على إطالة أعمارهم وتوفير نوعية حياة أفضل لهم، وتسخير الأدوات بما يخدم راحتهم واستقرارهم، والتفكير في إصلاح وتطوير صحتهم الجسدية، النفسية، الفكرية، العقلية والقيمية. عدا ذلك، في احتمالات أخرى وطرق أخرى، كل ما سينمو هو مزيد من العلقم في المجتمعات، لَيْسَ للناسِ مِنْ غذاء إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وزقوم، لَيْسَ لهم مِنْ غذاء إِلَّا الحَميم والصَديد.

أولئك الذين لطالما حذروا من الجحيم وغذائه وعذابه، تجسدت مخاوفهم في واقعهم. فلا جحيم أكبر من هذه الهاوية العظمى.

أما في التفكير بالحلول، فلا حل سحري، بل على الإنسان الاحتكام إلى حكمته وعقله، ونقاء قلبه، الاحتكام إلى قيمه وأخلاقياته وإلى قوانين عادلة من أجل بناء مجتمعات مستقيمة قويمة.

من المهم البدء بالاستثمار في السلام والاستقرار والمنطق لا الكراهية والتعصب والتكفير والصراعات.

◄ الانشغال بالحروب والصراعات أدى إلى انهيار اقتصادي وأمني وسياسي وخدماتي واجتماعي وتعليمي وصحي للكثير من الدول، علاوة على وجود عقبات وتحديات تواجه تطور المجتمع

فالشرق الأوسط في هاويته الأخيرة، بُنيت جدران جحيمه من الجهل والخرافات والترهيب والقمع والتعصب، ولن تُهدم إلّا بنور المعرفة والحكمة والعقلانية.

وإلا لا مخرج لهذه الأجيال.. لا مخرج. بل سيبقى أهل المنطقة في دوامة انهيار حتى فقدان آخر رمق من إنسانيتهم وحياتهم وحقوقهم.

علينا أن نتذكر ونستفيد من تجربة البشر في وقائع من تاريخ قريب؛ مثلا، أوروبا بعد سنوات من ظلم الكنيسة، وبعد عصور من الغوغائية والاستثمار في الحروب والصراعات، وبعد حروب عالمية أدت إلى مقتل الملايين وتدمير مناطق شاسعة، استيقظت وبدأت تستثمر في الإنسان، فبنت مجتمعات أفضل للأفراد خلال عقود.

اليابان خرجت من قنبلة نووية لتصبح واحدة من أعظم قوى التكنولوجيا والتعليم.

لذلك يجب التوقف عن الاستثمار في الخطابات الجوفاء، وفي تمجيد الموت، وفي ترهيب الناس وسلب حقهم في الحياة، وتحويلهم إلى أدوات مدمرة لأنفسهم.

لذا، آن لهذا الشرق أن ينظر في المرآة ويدرك: حق للإنسان أن يبدأ ببناء جنته هنا، لا في مكان مؤجل.

لا تُبنى الجنان إلا بالعلم والعقلانية، بانفتاح فكري ونقد تحليلي.. لا تُبنى الجنان إلا بالإنسان، بأصحاب العقول والأسوياء.

ولعل بداية الطريق هي أن يصدق الإنسان أنه يستحق أكثر من كل ذلك.

8