لماذا يموت المبدعون باكرا

المبدعون أشخاص فائقو الحساسية والانفعال. يتطلب الإبداع تلك الروح المتوقدة بالتمرد والثورة كما يحتاج إلى عقل دائم التفكير دون راحة علاوة على تأسيسه لجوهره المتفرد من مشاعر المبدع المتناقضة التي قد تسبب هزات نفسية خطيرة، كل هذا يؤدي إلى أن يكون المبدعون أناسا مختلفين ولكنهم معرضون قبل غيرهم لاضطرابات الصحة النفسية والجسدية حتى أن أغلبهم يموتون باكرا.
في دراسة لجامعة كاليفورنيا، توصّل عالم النفس الأميركي جيمس كوفمان (Kaufman James)، عام 1975، إلى نتائج لافتة عن أسباب الموت المبكر عند الكُتاب بشكل عام، والشّعراء بشكل خاص.
في دراسته هذه، عمل كوفمان على فحص معدّل الوفيات بطريقة إحصائية لدى العديد من الكتاب من أربع ثقافات مختلفة (أميركا الشمالية، الصين، تركيا، أوروبا الشرقية) بالعودة إلى المراجع الأدبية والسير الذاتية المتوافرة، ضمن حقبات زمنية ممتدّة منذ عام 390 وحتى نهاية القرن العشرين.
وخلُص إلى أن معدل الأعمار عند الشّعراء هو 62 سنة فقط، فيما يبلغ المعدل عند الرّوائيين وباقي الكتاب 65 و68 سنة. بالنظر إلى السمات النفسية الهشّة للشعراء وميولهم السوداوية.
شعراء رحلوا باكرا
للمبدعين بشكل عام نظرة أخرى للحياة بسبب الحساسية العالية لديهم فكلما ارتفعت الحساسية ارتفع الإبداع وارتفع خطر المرض وفقدان الحياة (الموت الطبيعي) أو الموت على يد الخصوم والأعداء (القتل) أو شراء الموت (الانتحار).
“أبنيتي.. لا تجزعي كل الأنام إلى ذهابِ/ نوحي عليّ بحسرة من خلف سترك والحجابِ/ قولي إذا كلمتني وعييت عن رد الجوابِ/ زين الشباب أبو فراس لم يمتع بالشبابِ”.
كان الصاحبُ ابنُ عبَّادٍ يقولُ «بُدئَ الشِّعرُ بمَلِكٍ وخُتِمَ بمَلِكٍ» ويقصد امرأَ القيسِ وأبا فِراسٍ الحمداني والأخير وفي الأبيات أعلاه يخاطب ابنته فيصف نفسه بزين الشباب الذي لم يتمتع بشبابه. الحمداني صاحب قصيدة أقول وقد ناحت بقربي حمامة، هو ذاته من قال في إحدى قصائده إن الشعر ديوان العرب. لم يعش سوى 38 عاما بسبب ما فتك به وبجسده بعد أن أنهكه الأسر.
كما أن الملك الضليل ورأس الشعراء العرب وصاحب الفضل في القصائد البكر ووضع المنهج للقصيدة الجاهلية من الوقوف على الأطلال ووصف الناقة …الخ أمرؤ القيس مات وعمره 40 عاما وقد عجز الشعراء من بعده عن كتابة مثل هذه الأبيات: أغَرّكِ مني أنّ حُبّكِ قاتِلي/ وأنكِ مهما تأمري القلب يفعلِ/ وأنّكِ قَسّمتِ الفُؤادَ، فنِصفُهُ/ قَتيلٌ، ونِصفٌ بالحَديدِ مُكَبَّلِ/ ومَا ذَرَفَتْ عَيْناكِ إلا لتَضْرِبي/ بسَهمَيكِ في أعشارِ قَلبٍ مُقَتَّلِ.
ولا ننسى في مقامنا هذا كل من الشاعر الفلسطيني الكبير ابن مدينة نابلس (دمشق الصغرى) وشقيق الشاعرة فدوى طوقان، إبراهيم عبدالفتاح طوقان (ولد في 1905 في نابلس، فلسطين – توفي 2 مايو 1941 في القدس، فلسطين).
إبراهيم تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة الرشيدية في القدس، وأنهى دراسته الثانوية بمدرسة المطران في الكلية الإنجليزية بالقدس وذلك عام 1919. ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت عام 1923 لدراسة الآداب، وكان نشاطه في قسم المحاضرات الأدبية آنذاك. عمل بين عامي 1931-1933 مدرسا للغة العربية في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم عاد إلى فلسطين ليزاول التعليم في المدرسة الرشيدية في القدس لعدة أشهر، عين بعدها في إدارة مؤسسة المياه في نابلس. جرى تعيينه عام 1936 مديرا للبرامج العربية في القسم العربي لإذاعة القدس فقام بتحويل الإذاعة إلى منبر وطني من خلال تقديمه العديد من البرامج الأدبية والمحاضرات المتعلقة بشخصيات وطنية فلسطينية، فأجبر على الاستقالة من عمله بتهمة التحريض على سلطات الانتداب البريطاني عام 1940. في أعقاب إقالته من الإذاعة انتقل إلى العراق، وعمل مدرسا في وزارة المعارف العراقية، وحين عاجله المرض عاد إلى فلسطين، وتوفي فيها عام 1941.
كان إبراهيم طوقان ملهما وطنيا من خلال أشعاره التي كانت تحرض الفلسطينيين على الثورة في أوج سنواتها 1929 و1936. ومن أبرز قصائده الوطنية “الثلاثاء الحمراء” التي عبر من خلالها عن معاناة وبطولة شهداء ثورة البراق إبراهيم حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير الذين شنقتهم سلطات الانتداب في سجن عكا.
طوقان مؤلف “موطني” التي اتخذها العراقيون كنشيد وطني لهم، وقصيدة “الفدائي” ذائعة الصيت التي تم غناء قسم منها في مقدمة شارة مسلسل التغريبة، ولا ننسى السّجال الشعري بينه وبين أمير الشعراء أحمد شوقي حين رد على قصيدته في تبجيل المعلم بقصيدة فكاهية، وقد كتب هذه الأبيات الجميلة إثر مرضه العضال حين كان في المشفى: إليكَ تَوجّهتُ يا خالِقي بِشكرٍ عَلى نعمة العافيه/ إذا هِيَ وَلَّت فَمن قادرٌ سِواك عَلى ردِّها ثانيه/ وَما لِلطَبيب يَدٌ في الشِفاءِ وَلَكنها يَدك الشافيه/ تبارَكتَ أَنتَ معيدُ الحياة ِمَتّى شئت في الأَعظم الباليه/ وَأَنتَ المفرِّج كربَ الضَعيفِ وَأَنتَ المجيرُ مِن العاديه.
إبراهيم طوقان مات إثر مرض في العظام ولم يكمل عامه 36.
وأتذكر هنا أيضا الشاعر التونسي العظيم “أبوالقاسم الشابي” مؤلف “إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي، ولابد للقيد أن ينكسر”. قصيدة صدح بها الكثير من المطربين والمطربات كلطيفة التونسية وعاصي الحلاني والتي ألهبت صدور الملايين وخاصة في ثورات الربيع العربي في العقد الفائت. أبوالقاسم الشابي توفي وعمره 25 عاما فقط بسبب مرض في القلب.
ولا يفوتنا في مقامنا الصعب هذا الشاعر السوري الشاب رياض الصالح الحسين (1954-1982) والذي يعتبر إلى اليوم من أهم شعراء القصيدة اليومية، ومحدثيها في العالم العربي، وكانت لديه صعوبة في النطق، وخلل في السمع، نتيجة مرض أصابه وهو طفل، كان يعاني من مرض القصور الكلوي، بعد إفراطه في الحبوب المهدئة، ومات في مستشفى المواساة. لرياض الكثير من القصائد الخالدة والتي إلى اليوم تفتح أفق الكتابة للعديد من الشعراء في عالمنا العربي، وهنا مقطع من قصيدته “في كل خطوة قمر مكسورة” يقول: سنحاول أن نسير في الشارع/ نتكلَّم بغبطة وبلا خجل/ ووحيدين نعود إلى البيت/ متشابكي القلوب والأصابع/ وللشجر أن يكون أشد اخضرارا/ وللبحر أن يكون أشد اتِّساعًا/ ومثلما يحقُّ للسكِّين أن يكون حادًّا ومؤلمًا/ فللخطيئة الجميلة حقّها في أن تتكاثر كالأرانب/ حيث في كلّ خطوة قمر مكسور/ حيث/ في/ كلّ/ كلمة/ قبلة/ مذبوحة.
ولا كذلك يفوتنا الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ( 1926 -1964 )صاحب قصيدة “أنشودة المطر” ذائعة الصيت، وهو يعتبر من مؤسسي الشعر الحر رفقة مواطنته الشاعرة العراقية نازك الملائكة. وتعد قصيدة السياب “هل كان حبا” أول قصيدة له في كتابة الشعر الحر.
في أنشودته يقول السياب “في كلِّ قطرةٍ من المطرْ/ حمراء أو صفراء من أَجِنَّةِ الزَّهَرْ/ وكلّ دمعة من الجياع والعراة/ وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ/ فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد/ أو حُلْمَةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ/ في عالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ، واهب الحياة/ وَيَهْطُلُ المَطَرْ”.
القتل والانتحار
طرفة بن العبد الشاعر الشاب صاحب المعلّقة الشهيرة والمكتوبة بماء الذهب والذي تقطر معلّقته بالفلسفة الوجودية قتل في عمر 26 عاما.
الروائي والقاص والناقد ومدرس التربية الفنية والرسام المبدع ورئيس تحرير مجلة الهدف والناطق باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين غسان كنفاني، كان وما يزال يدهشني بتعدد انشغالاته وإبداعاته وكيف استطاع القيام بكل هذا خلال رحلته الحياتية القصيرة على هذه الأرض.
لغسان العديد من المجموعات القصصية والروايات وهناك روايات لم يتمكن من إنهائها كرواية “الأعمى والأطرش” بسبب قتله على يد الموساد الإسرائيلي بتفخيخ سيارته. له أيضا الكثير من اللوحات الفنية الجميلة فقد كان رساما موهوبا وليس هذا فقط بل كان صحفيا متمكنا فقد دخل في سجال تحت اسم فارس فارس مع المثقف السوري الكبير صادق جلال العظم وهو أيضا متحدث متمكن باللغة الإنجليزية ويذكر الجميع حواره الشهير مع الصحفي النرويجي بالإنجليزية حيث طلب منه الأخير بدء حوار مع الإسرائيليين فأجابه غسان بطريقة صاعقة “هو حوار السيف والرقبة”.
لم يكن غسان يحمل هموم ومعاناة شعبه فقط بل كان يحمل قلبا رقيقا دفعه لتبادل الرسائل مع الأديبة السورية الكبيرة غادة السمان والتي كان يختتهما بـ”خذيني تحت جفنيكِ” حيث أنه لليوم يسرق العشاق الرسائل من غسان والذي برسائله أضاف لأدب الرسائل الكثير وهو يسير على نهج المبدع الكبير جبران في فنون القصة والرواية والرسالة و الرسم.
لا يمكن أن ننسى في مقامنا هذا الشاعر الكبير الذي ما يزال شعره يطرق قلوب العاشقين ويشعل جذوة الثورة في قلوب الثوار غارسيا لوركا الذي قتل في عمر 38 عاما على يد الجنرال فرانكو في غرناطة في العام .1936 نردد أشعاره إلى اليوم وكان لشعره بالغ التأثير في شعراء كبار في عالمنا العربي كمحمود درويش.
معدل الأعمار عند الشّعراء هو 62 سنة فقط، فيما يبلغ المعدل عند الرّوائيين وباقي الكتاب 65 و68 سنة. بالنظر إلى السمات النفسية الهشّة للشعراء وميولهم السوداوية
أحصت الكاتبة اللبنانية جمانة حداد في كتابها “سيجيء الموت وستكون له عيناك” انتحار نحو 150 شاعراً في القرن العشرين، بينهم 15 شاعراً عربياً انتحروا خلال القرن العشرين، وهم؛ خليل حاوي (لبنان، 1919-1982)، منير رمزي (مصر، 1925-1945)، عبدالباسط الصوفي (سوريا، 1931-1960)، انطوان مشحور (لبنان، 1936-1975)، تيسير سبول (الأردن، 1939-1973)، عبدالرحيم أبو ذكري (السودان، 1943-1989)، إبراهيم زاير (العراق، 1944-1972)، قاسم جبارة (العراق، 1955-1987)، عبدالله بوخالفة (الجزائر، 1964-1988)، كريم حوماري (المغرب، 1972-1997)، صفية كتّو (الجزائر، 1944-1989)، أحمد العاصي (مصر، 1903-1930)، فخري أبوالسعود (مصر، 1910-1940)، فاروق أسميرة (الجزائر، 1966-1994)، مصطفى محمد (شاعر سوري كردي، 1983-2006).
لكن الانتحار الأكثر صدى كان في العام 1982 حين انتحر الشاعر والمثقف والكاتب اللبناني الكبير خليل حاوي الحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كامبريدج في بريطانيا، قيل كلام كثير في أسباب انتحاره، خاصة أنه حاول الانتحار ثلاث مرات من قبل، و ربط البعض بين ذلك والاجتياح الإسرائيلي للبنان، كان الحاوي يكثر من استخدام الرموز التاريخية والنفسية والحسيّة في قصائده، ولقب بشاعر الرماد وللعلم كان يعاني من مرض في الرأس، وقد كتبت القاصة العراقية ديزي الأمير التي كانت حبيبة خليل حاوي خلال سنوات، إنه كان يعاني مرض «الصرع». بعض الأهل والأقارب كانوا يقولون إن ورماً في الرأس كان يوقعه في حالات من التوتر والألم، وكان من الصعب إزالته بجراحة.
الحاوي كتب الكثير من القصائد الرائعة والمؤلمة بنفس الوقت وهنا أستذكر قصيدته الشهيرة “الجسر” التي قال فيها: وكفاني أَنَّ لي أطفالَ أترابي، ولي في حُبِّهم خمرٌ وزادْ/ مِن حصادِ الحَقلِ عندي ما كفاني/ وكفاني أنَّ لي عيدَ الحصادْ/ أنَّ لي عيدًا وعيدْ/ كُلَّما ضَوَّأَ في القَريةِ مصباحٌ جديدْ.