لماذا يكره بخلاء الجاحظ الشعراء ويحذرونهم

عبدالفتاح كيليطو يعيد قراءة كلاسيكيات الأدب العربي بعيني الجاحظ.
الأحد 2021/05/02
الجاحظ كان كاتبا ساخرا ومتفكها لكنه لم يكن سعيدا

يزخر الأدب العربي القديم بآثار خالدة ومؤسسة في الثقافة العربية تبقى العودة إليها ضرورة للكتاب والباحثين والقراء لفهم نشأة الثقافة العربية وتطورها. فالحاجة للعودة إلى كلاسيكيات الأدب ليست من باب المتعة فحسب ولا هي حنين مفرغ إلى الماضي وإنما هي اكتشاف لأسباب التطور الحضاري الذي بلغه العرب سابقا واكتشاف لركائز تلك الحضارة وسبل إحياء تراثها الإنساني الهام.

تتعدد المحاولات اليوم لفهم النسق الذي تشكلت فيه النصوص الكلاسيكية العربية والتساؤل عن الاعتبارات التي تجعل منها اليوم نصوصا كلاسيكية، وعما إذا كانت لها خيوط نسب مع ما أنتجه الأدب العربي بعدها، وعما إذا كانت هناك حاجة اليوم للعودة إلى تلك النصوص التي نعرف أن كتابها قد ألفوها لمخاطبة معاصريهم، ولكنها بطريقة ما لا تزال تخاطبنا إلى اليوم.

وفي هذا الصدد اختارت مؤسسة عبدالرحيم بوعبيد المغربية مؤخرا استضافة الكاتب والمفكر المغربي عبدالفتاح كيليطو، ليلقي محاضرة حول تجربة الجاحظ، وذلك نظرا إلى ما أحدثته كتبه من تحولات عميقة شكلا ومضمونا في مسار النثر العربي.

قراءة متجددة

في تقديمه للمحاضرة التي ألقاها الكاتب عبدالفتاح كيليطو قال المغربي محمد الأشعري، الشاعر والروائي ووزير الثقافة السابق، إن كتابات أبي عثمان الجاحظ أثارت قضايا شائكة، من ظهور المؤلف واختفائه وانبعاثه وحول الإقامة المربكة بين الجد واللعب، كل ذلك يعتبر تجربة استثنائية في التراث المكتوب، ونظرا أيضا إلى كون الدراسات والقراءات التي قام بها كيليطو للجاحظ، على غرار ما قام به بخصوص كتاب آخرين كأبي العلاء المعري مثلا، بدورها تجربة عميقة ومدهشة في استعادة هذه النصوص ونسج خيوط حديثة للعلاقة مع كتابات ترجع إلى أزيد من عشرة قرون.

لقد كان الجاحظ كاتبا ساخرا ومتفكها لكنه لم يكن سعيدا على الإطلاق، فقد كانت صناعة الكتاب في عصره تقوم على الرواة والنسخ، وقد اضطر في مرات كثيرة إلى مقاومة العداء المحيط به بالتواري خلف الراوية أو الناسخ وتوقيع كتبه بأسماء كتاب قدامى أو الادعاء للتخلص من الشرور المحيطة به، كما نشر بعض مؤلفاته باسم مجهول، ثم يعترف بعد ذلك بأبنائه اللقطاء، يقول الأشعري، وهذا التزييف الدائم والإحباط المرتبط به يجعلان الجاحظ كاتبا لا نعرف على وجه التدقيق إلى اليوم ما هي كتبه الحقيقية من المزيفة، ما هي الكتب التي نسبها إلى غيره وتلك التي نسبها آخرون إليه.

ومن الملاحظ أن ما وصلنا من كتب الجاحظ كان ربما الأوفر حظا في التداول بيننا، يقول الأشعري، حيث أن أبا عثمان كتب كثيرا من الجد، لكن طرافة البخلاء وأخبار الحمقى تجعلنا نعتبر أن الطابع الهزلي للكاتب أهم ما يميزه في عصر اتسم بجهامته الفقهية والسياسية، ودون شك فإن كيليطو بتحليلاته الدقيقة قد وضعنا أمام مظاهر أكثر تعقدا من هذا الانطباع السريع حول أدب الجاحظ.

الجاحظ والأدب الفرنسي

قال عبدالفتاح كيليطو إن “الجاحظ من المؤلفين العظام الذين يذهلوننا ويتحولون إلى علامة لا تمحى من مسارنا الفكري، وهذا لا يحدث كل يوم، فأعود إليهم باستمرار وأجدد فهمي لهم بمرور الوقت، فقد كنت أعرف عناوين بعض كتبه: البيان والتبيين، الحيوان، البخلاء، لكن لم أكن أتصور وأنا طالب أنني سأقرأها في يوم من الأيام”.

ويؤكد الكاتب المغربي أن الصدفة وحدها هي التي جعلته يهتم بما كتبه أبو عثمان الجاحظ، وكان ذلك في العام 1966 عند نيل شهادة في الأدب الفرنسي، وكان لا بد من أن يحضر الشهادة الرابعة في مادة لا تنتمي إلى الشعبة التي يدرس فيها، ووقع اختياره على الأدب المقارَن في شعبة الأدب العربي، ولم يكن يخمن ما كان ينتظره من الصعاب.

يتابع كليطو “درست ‘مغني اللبيب‘ لابن هشام الذي اعتبره ابن خلدون أنحى من سيبويه، ولازلت إلى اليوم أذكره برهبة من يستطيع قراءته، وكان لا بد من التمكن من علم العَروض، والفائدة الكبرى كانت في دراسة النقد القديم، حيث قرأت ابن قتيبة والآمدي وابن طباطبا والجرجانيَّيْن، صاحب ‘الوساطة’ وصاحب ‘أسرار البلاغة’، وابن شرف القيرواني. فاكتشفت حينئذ عالما فكريا جديدا وقارة هائلة وثرية، ومنذ ذلك الوقت نشأ لدي اهتمام بالأدب العربي القديم، وتكونت لدي القناعة سواء كانت خطأ أم صوابا أن من لم يقرأ المؤلفين الذين ذكرتهم لا يعرف الشعر إلا بصفة سطحية”.

وعلى هامش المقرر قرأ كيليطو بصفة عرضية كتاب البخلاء للجاحظ، وقال “كنت أتخيله يشتمل على نوادر تستهزئ بالأشحاء وتصف خستهم ونذالتهم، كما هو معروف وشائع، ما يميز هذا الصنف من النوادر أن البخيل يُتَحَدَّثُ عنه ولكنه لا يتكلم إطلاقا، ويا له من اكتشاف عندما تبين لي أن الجاحظ أعطاه الكلمة ووهبها له”.

النثر هو المجال الذي يوافق البخلاء ويعتبر الجاحظ ممن طوروا فن الرسالة ليصبح النوع المهيمن في الأدب العربي

وهنا يرى المفكر المغربي عبدالسلام بنعبد العالي، في مداخلته على هامش المحاضرة، أنه عندما يعبر كيليطو عن الشعور الذي لم يفارقه قط أن بإمكانه أن يضيف شيئا للأدب العربي يبرر ذلك بأنه ناجم عن اطلاعه على الأدب الفرنسي والأوروبي، ونلمس أن تلك السنوات من الكلام الأكاديمي لها أثرها مع ذلك، وأن هناك مفعولا للأدب الفرنسي وأن أثر ذلك الأدب على مُدَرِّسِهِ لم يُمح على الإطلاق.

قد يستفاد من ذلك لأول وهلة أن كيليطو لا يعترف هنا إلا بدَيْنِهِ المنهجي لدراساته للأدب الفرنسي، ذلك الأدب الذي قد يكون مكنه من أن يكتب على الأدب العربي، فكأن الاطلاع على الأدب الأوروبي طريق تمهد الدارس لدراسة الأدب العربي وتمدُّهُ بالعدة المنهجية لذلك، بحيث يجيء إلى أدبه وقد رأى مناهج جديدة وُظِّفت لدراسة آداب أخرى فيحاول تطبيقها.

وأضاف بنعبد العالي في مداخلته أن الجاحظ أسس بصورة جلية فن الاستطراد، الانتقال المفاجئ من موضوع إلى آخر، من شعر إلى نثر، من موعظة إلى نادرة، من مثل إلى خطبة، من جد إلى هزل، فإذا كان من اللازم تشبيهه بكاتب أوروبي فلا أرى أفضل من الفرنسي مونتين الذي كان يكتب بالقفز والوثب.

والظاهر إذن أن المسألة لا تتعلق بمن استقى كيليطو منه نهجه في الكتابة ولا حتى بعلاقة منهج بموضوع، والظاهر أنه من الضروري أن نفتح المسألة على ما تؤكده دراسات الأدب المقارَن حيث نتبين أن العلائق بين الأدب والثقافات لا تُختزل في العلاقة بين الموضوع والمنهج وأن التثاقف يتيح للدارس أن يتموضع بين ثقافتين وينهل من منبعين وينظر في الاتجاهين، ونحن واجدون في كتب الندم الفكري دليلا على ما نذهب إليه.

ويرى كيليطو أنه كانت تنقصه للتقدم في فهم الجاحظ كلمة واحدة، أصلها من لغة سكان أصليين في غرب الولايات المتحدة، وهي كلمة “potlatch”، بوتلاتش، ترجمتها “الهدية أو الهبة”. ويمكن اعتبار “potlatch”، وتترجم أيضا بالتبرع والتبرع المضاد، شيئا عاديا يحدث يوميا. فيمكن أن أهديك شيئا ربما ستفرح به إلا أن الأكيد سأحرجك لأنك ستفكر توا في إهدائي بدورك شيئا ما ويستحب أن يكون بزيادة، ولكن الأمر يكتسي صبغة درامية حين يبالغ فيه فيصير تحديا ويتطور إلى ما لا تحمد عقباه.

الشيء ونقيضه

عبدالفتاح كيليطو:  ما أثار الآخرين في الثقافة العربية هو النثر وليس الشعر، الذي لا يمكن ترجمته، والحضارة العربية بالنسبة إلى غير العرب كامنة في النثر العربي
عبدالفتاح كيليطو: ما أثار الآخرين في الثقافة العربية هو النثر وليس الشعر، الذي لا يمكن ترجمته، والحضارة العربية بالنسبة إلى غير العرب كامنة في النثر العربي

يقول كيليطو في معرض حديثه عن أدب الجاحظ إنه شخصيا لا يعرف في الأدب العربي أو العالمي مؤلفا آخر منح للبخلاء فرصة الكلام قبل الجاحظ، فقد كان البخيل مجرد ضمير الغائب، فإذا به عند الجاحظ قد حل في ضمير المتكلم، يعتز بنفسه ويدافع عن مذهبه بكل شراسة، ويقدم حججا يصعب تفنيدها، ولهذا عنون فصلا في أحد كتبه “صورة البخيل بطلا”، ذلك أن البخل بالنسبة إليه كمذهب في الحياة وعقيدة في التفكير ملة يجب الحرص عليها مقابل ملة الأسخياء المنافسة.

وهؤلاء أيضا لهم فرصة التكلم بصيغة الأنا ولهم في صراعهم مع البخلاء منذ البداية امتياز لأنهم ينعمون بتحيز إيجابي بحكم مسبق لصالحهم، فلا أحد يستنكر الكرم والسخاء ولا أحد سبق أن وافق على أن يُنعتَ بالبخيل إلى أن برز فجأة بخلاء الجاحظ، فالصراع في كتاب الجاحظ محتدم بين فئتين تتجادلان بضراوة في حواراتهما وفي الرسائل التي تتبادلانها، فهما فئتان من الأدباء الأشداء على منافسيهم، فإلى أي فئة يميل الجاحظ؟ من الصعب معرفة ذلك.

يحلل كيليطو المسألة من خلال التأكيد على استنكار الجاحظ ظاهريا مذهب البخلاء ويسخر منهم أحيانا، لكنه يشيد ببلاغتهم وبفصاحتهم وبامتلاكهم قوة الكلام، بينما لا ينوه في هذا الشأن بالأسخياء وإن بدا بجانبهم، فتصرف البخلاء مذموم ولكن حديثهم محبوب، فكأن البلاغة مقصورة عليهم، وكأن الفصاحة مرادفة للبخل، كان ذلك ارتسامه في ذلك الوقت وهو طالب، وفيما بعد اتضح له أكثر بأن كتاب البخلاء كتابان، أو أنه كتاب يشتمل على نقيضه.

إذا كان كل مؤلف يكتب مع أو ضد وأحيانا يجمعهما معا في كتابته، يتساءل كيليطو، لماذا ألف الجاحظ كتاب البخلاء، مع من وضد من؟ في أي سياق اجتماعي وثقافي حدث ذلك؟ سؤال صعب، لكن ما لاحظته أن بخلاءه مقتنعون بمذهبهم ويكتبون ضد الشعر والشعراء. وبالنسبة إلى التناقض الذي يبني عليه الجاحظ كتابته فإنه من فرط ما اعتنى بالتضاد صار متناقضا في جسده، إذ في نهاية حياته أصيب بالفالج، نصف جسده جامد والنصف الآخر حي، أي حتى جسده تشرب بأفكاره، فقد كان همه أن يلامس قارئه الموقفين في تناقضهما. وما يهمنا نحن إبراز قدرته الجبارة على تدبير الحوار بين متقابلين وتلذذه بجدالهما مما يعطي لكتابته الحيوية والحياة اللتين جعلتانا ما نفتأ نعود إليه.

قيمة الشعر والنثر

بخلاء الجاحظ يكرهون الشعراء ويحذرونهم وقلما يحيلون على الشعر على عكس الأسخياء، ذلك أن الشعر كما يقول الأصمعي، وهو ضمن بخلاء الجاحظ، باب من أبواب الباطل. ويضيف كيليطو أن “الشعر مبني على ثقافة البوتلاش والعلاقة وطيدة بين الباطل والبوتلاش، بحيث يمكن أن نزعم أن الشعر باب من أبواب البوتلاش”.

ويتابع الكاتب المغربي “فبماذا يتباهى الشاعر أو السيد في السياق التقليدي، يفتخر بشجاعته ويتبجح على الخصوص بتبذير ماله بإهلاكه في الكرم الزائد وفي الخمر والميسر، واللافت في الأمر أنه يقوم بهذا التصرف على الرغم من استنكار ومعارضة امرأته. يقوم بهذا السلوك ضدها ذلك أن المرأة كما تصور في الشعر ضد البوتلاش، فكم من أبيات شعرية تبدأ بكلمة دريني، بمعنى اتركيني”.

النثر هو المجال الوحيد الذي يوافق البخلاء، يقول المحاضر، ويعتبر الجاحظ ممن طوروا فن الرسالة حيث صار منذئذ النوع المهيمن في الأدب العربي، فظهرت الرسالة على حساب الشعر فهمشته إلى حد كبير، ويضيف المحاضر أن الشيء الذي أثار الآخرين في الثقافة العربية هو النثر وليس الشعر، لأن هذا الأخير لا يمكن ترجمته، والحضارة العربية بالنسبة إلى غير العرب كامنة في النثر العربي.

وفي معرض تدخله أشار محمد الأشعري إلى أن الجاحظ كان كاتب نثر مثيرا للدهشة في لغة تعودت على صدارة الشعر في الحياة والأدب، مضيفا أن الجاحظ كان يكتب في مدينة البصرة والناس فيها لم تعد تحتاج إلى القبيلة بل إلى التحقق الفردي والشخصي، وقد احتلت لغة الدواوين والوسط الحضري لغة البوادي، وفي هذا الوسط بات الشاعر مجرد متسول والشعر مجرد وسيلة للكسب لا تستطيع ابتكار خطاب ولا مخاطبين حقيقيين، وفي هذا السياق انبثق النثر ككتابة تشبه عصرها وأمكنتها وتحولاتها.

نظرة متجددة للحيوان

Thumbnail

لنلتفت الآن إلى كتاب الحيوان ولعله، وفق كيليطو، أهم كتب الجاحظ، إذ نجد فيه نفس الطريقة التي لاحظها في كتاب البخلاء، أي حوارا في إطار مناظرة بين فئتين متضادتين. والمفاجأة هذه المرة، يقول كيليطو، أن إحدى المناظرات تجمع مناصري الكلب مع مناصري الديك في قرابة مئة صفحة.

ولوضع الأمر في سياقه التاريخي نذكر أن الجاحظ واكب نشوء عصر التدوين وتطوره ويتميز هذا العصر ببروز الترجمة كمركز للاهتمام وبؤرة في التفكير، ومن مظاهر هذه الفترة ترجمة ابن المقفع لكليلة ودمنة وجهوده في نقل التراث الفارسي.

ومن مظاهر ذلك أيضا كتاب ألف ليلة وليلة وترجمة فلاسفة اليونان، وفي هذا الجو بالذات ينبغي قراءة المناظرة التي تتم بين مناصري الفلسفة ومناصري الشعر.

فكتاب البخلاء يتكون في قسم كبير منه من رسائل يتبادلها حزب السخاء والبخل، وكما أن موضوع الشعر أثير في البخلاء فهو أيضا موضوع مثار داخل كتاب الحيوان، ويستغرق العديد من الصفحات، والجدير بالملاحظة أن بداية الكتاب تبدأ بمدح الكتاب وتمجيد الكتابة، ترى من يتحفظ هذه المرة من الشعراء، إنهم مناصرو الفلسفة الذين يتصدون لمناصري الشعر.

ويختم عبدالفتاح كيليطو محاضرته بأن الفلاسفة بخلاف البخلاء لا يكنون العداوة للشعر وإنما يبرزون حدوده، والأدق أنهم لا يخفون إعجابهم بالشعر العربي لكنهم يرون أنه يستحيل ترجمته وهو مقصور على العرب ومن تعلم لسان العرب.

11