لماذا غزة وليست الجولان

قال الأديب السوري محمد الماغوط “من كثرة الطرق التي أصبحت تؤدي إلى فلسطين، صارت القضية في حاجة إلى إدارة مرور”. كلام بليغ يختزل المسافة التفكيرية لأولي الألباب، ويبين أن فلسطين وقضيتها في مرمى مصالح القريب والبعيد. من المؤسف حقًا أن نجد في أوساط المثقفين فضلًا عن المتعلمين من يقول غير ذلك. منذ الثامن من أكتوبر وجبهة الشمال ساخنة، وتزداد وتيرة التصعيد بين الحين والآخر، وسخونة المواجهة بلغت ذروتها بين حزب الله وإسرائيل بعدما فجرت إسرائيل أجهزة الاتصالات وبعد إقدام إسرائيل على اغتيال مسؤول العمليات في حزب الله وصحبه. في خطابات “سماحة الشيخ” يكرر أن جبهة الشمال سوف تكون مشتعلة ما دام هناك عدوان على قطاع غزة. كلام جميل، وفي حال توقفت الحرب سوف يعود الهدوء إلى الشمال وسكان الشمال، وأقصد هنا الإسرائيليين. إذن الأمر مربوط بغزة والعدوان عليها، يمكن البناء على هذا الأمر في معركة الوعي والذاكرة. الحزب سيعود لكي يمارس حياته السياسية في لبنان وينسى ما حل في غزة من دمار، أي بمعنى آخر ينتهي دوره كجهة إسناد.
نحن نفهم أن دور الفصائل والأحزاب ليس خوض غمار السياسة فحسب، بل العمل الدؤوب على تحرير ما اقتطع من أرض وإعادتها إلى الحضن الأم.
الجولان منذ أكثر من خمسة عقود ونيف محتلة، وهي قطعة عزيزة على قلوب السوريين واللبنانيين والعرب على حد سواء. فتلك القمم الشماء ليست أقل أهمية من غزة، كلها بقاع محتلة يقع تحريرها على من يحمل السلاح، ويرابط على الثغور. لقد سقطت الجولان في عام النكسة، وكان لسقوطها الأثر العميق في نفوس العرب، لأهميتها على جميع الصعد، أهمها الموقع الإستراتيجي المهم، وخصوبة أراضيها، فضلًا عن أنها منطقة جذب سياحي.
◄ يبدو أن هناك برنامجا يتبعه حزب الله يصدر من طهران، وبناء عليه، يقوم الحزب بتنفيذ ما يُملى عليه خطوة بخطوة، وعلى الجميع أن يعرف أن طهران لا تريد الدخول في معركة وحرب شاملة مع إسرائيل، ومن خلفها أميركا
الشواهد، بعد الثورة السورية خافت إيران على نظام الأسد ضمن التحالف العريض بينهما، وبعثت جنودها ومعداتها من أجل صد الثورة السورية، وحماية بشار الأسد من بطش الثورة، وسقط الكثير من القتلى في صفوف السوريين، وأغلبهم من المدنيين. المفارقة التي يجب أن نتوقف عندها، هي أن طهران لم ترسل قواتها لصد الهجوم الإسرائيلي المتكرر على دمشق وما حولها، وما تتعرض له سوريا من اعتداء على كرامتها. أليس هذا يكفي لإسناد سوريا؟ الشعب السوري عندما ثار بدافع تحسين البيئة السياسية في بلاده، وتحسين الوضع المعيشي، هكذا كان يروم، وطالب برحيل الأسد ليأخذ غيره فرصته في إدارة شؤون البلاد. للأسف قمعت الثورة السورية بالنار والحديد، حتى استتب الأمر، وبقي الأسد إلى يومنا هذا رئيسًا لسوريا، ولم ينته دور حزب الله وأذرع إيران الأخرى في سوريا، ويعود ذلك لما تحت الطاولة وهو تطلعات إيران بعيدة المدى.
في العدوان على غزة بعيد “طوفان الأقصى” يبدو الوضع مختلفًا عن سابقه من اعتداءات إسرائيلية على غزة، وكان دور طهران في الحروب خجولًا وخجولًا جدًا. اليوم الوضع يبدو مختلفًا، فوراء الأكمة ما وراءها. السؤال الذي حيّر الجميع: لماذا تدخلت أذرع إيران وفتحت جبهة الشمال؟ التفسير الوحيد والأوحد هو أن القضية الفلسطينية هي عبارة عن جسر تعبره إيران لتحقيق مصالحها، وبات دخولها المعركة من خلال حزب الله أكثر فائدة بعدما رأت طهران أن الشعوب العربية باتت تفقد ثقتها بالعالم وبحكامها.
ويطول بنا المقام ونحن نبحث عن مآرب إيران التي تحشد من بوابة فلسطين الجماهير العربية، وعبر هذا الزخم المؤيد لبطولات إيران ومن يدور في فلكها تسعى طهران الولوج إلى قلب العواصم العربية. وقد تبنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ تأسيسها خطابًا دينيًا وسياسيًا؛ سياسيًا خلخلة الأوضاع الإقليمية، فالقضية الفلسطينية ما زالت حية ترزق، وأن بإمكانها استغلال هذا الواقع لإلحاق الضرر بخصومها العرب، وإضعاف مكانتهم بين شعوبهم. أما دينيًا فلا حاجة لتوضيحه.
في ظل ما يجري اليوم على الحدود الشمالية وبعدما تعرض حزب الله لضربتين مؤلمتين، إذا أردنا أن نبحث في عمق ما جرى خلال الأيام الفائتة، هل يترك هذا المشهد متسعًا للتردد أو التأخر أو عدم الرد؟ النائب المسيحي المتحالف مع حزب الله آلان عون قال إن “حزب الله عالق. فهو في حاجة إلى الانتقام لاغتيال أحد قادته، لكن في الوقت نفسه لا تزال صورة حرب 2006 في ذهنه”. وفي منتصف أغسطس الماضي قال نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم إن الرد على عدوان إسرائيل على الضاحية الجنوبية قرار متخذ وهو سينفذ ومنفصل عمّا ستؤول إليه مفاوضات الدوحة، رابطًا بذلك بين إطفاء جبهة الجنوب وإنهاء حرب غزة.
يبدو أن هناك برنامجا يتبعه حزب الله يصدر من طهران، وبناء عليه، يقوم الحزب بتنفيذ ما يُملى عليه خطوة بخطوة، والعنوان العريض الذي على الجميع أن يعرفه هو أن طهران لا تريد الدخول في معركة وحرب شاملة مع إسرائيل، ومن خلفها أميركا. الكل يتفق على فارق التكنولوجيا الواضح بين إسرائيل وحزب الله وهذا ما اعترف به حسن نصرالله، كما أن فارق القوة واضح أيضًا، وحجم الدعم الدولي لإسرائيل أكثر وضوحًا، خصوصًا الدعم الأميركي انطلاقًا من الإستراتيجية الأميركية ومقتضياتها. من هذا المنظور علينا أن نلغي دور العاطفة، ونفعّل دور العقل، حتى لا نبقى مخدوعين طيلة الوقت، فالقضية الفلسطينية أكثر ربحًا، وهي مفتاح طهران لنشر التشيع في العالم العربي.