لماذا غابت فلسطين وحكايات الواقع الفلسطيني عن الدراما السورية

عرفت الدراما السورية حين كانت في أوجها باهتمامها الكبير بالقضية الفلسطينية، حتى صارت جزءا لا يتجزأ من مواضيع الأعمال المنتجة سنويا، لكنها في السنوات الأخيرة سجلت غيابا لافتا، حتى غابت كليا هذا العام، حيث يبدو أن تغير اختيارات المنتجين وقناعاتهم إلى جانب تغير الأوضاع المحلية كانا سببا كافيا للانشغال بمشكلات محلية والاهتمام بتسويقها للجمهور العربي.
حملت الدراما السورية لواء القضية الفلسطينية في أعمالها منذ نشأتها، ولا تزال من خلال أعمالها تتناول القضية الفلسطينية لتغدو علامة فارقة ومميزة في الدراما.
فقد تم تناولها لأول مرة مع مسلسل “عزّالدين القسام” عام 1981 وهو من تأليف أحمد دحبور وبطولة الفنان أسعد فضة والممثلة القديرة منى واصف ومن إخراج هيثم حقي وإلى جانبهم عملت فرقة العاشقين الفلسطينية على تقديم أغانيها في العمل، وهو عمل درامي يحكي سيرة المجاهد الشهيد المنحدر من سوريا عزالدين القسام في فلسطين المحتلة ضد الاحتلال البريطاني.
وبعد هذا التاريخ راحت الأعمال الدرامية تتوالى في نسق مطّرد لا يفتر لتصل إلى مرحلة الذروة والنضوج، إذ قدم كل من المخرج حاتم علي والكاتب وليد سيف واحدا من أهم الأعمال التي تناولت القضية وهو “التغريبة الفلسطينية” عام 2004، العمل الذي يظل حتى يومنا هذا مرجعا لصناع الدراما ووثيقة أيقونية تؤرخ القضية الفلسطينية دراميا.
وقد اعتبر هذا المسلسل حتى اليوم بمثابة مرجعية تاريخية لما جرى للفلسطينيين خلال النكبة، فهو من أكثر الأعمال الخالدة التي أتاحت للجمهور أن يعرف تفاصيل عدة عن التهجير الفلسطيني والاحتلال. وهنا السؤال يطرح نفسه: متى بدأت القضية الفلسطينية تغيب عن الدراما السورية؟
مع بداية ثورات الربيع العربي عام 2011 شهدت الدراما السورية تراجعا كبيرًا فيما يتعلق بتناول الشأن الفلسطيني ليغدو هذا الطرح هامشيا لا يكاد يرقى إلى مستوى الحدث، فقد تم تجاهل طرح الشأن الفلسطيني تجاهلا تاما. فما الأسباب الكامنة وراء هذا الإعراض عن القضية الفلسطينية؟
إن الحدث الساخن السوري كان له أثره في طبيعة المواضيع التي أصبحت تُطرح. ولعل الكثير من النقاد ممن يُعنون بالشأن الفني يرون أن السبب وراء غياب القضية الفلسطينية عن الدراما السورية هو الانشغال بالقضايا الاجتماعية التي باتت حاجة ملحة وسط الأزمات التي عصفت بدولها.
لقد خيمت الأجواء العامة سياسيا في المنطقة على الدراما فكان لها بالغ الأثر في فرض نوعية الأعمال الفنية، فمحاربة الإرهاب شكل لصناع الدراما العربية مادة دسمة تتناولها في كل لوحة ومشهد وعمل.
في الأعوام الثلاثة الأولى من الحرب غاب الواقع السوري عن الدراما، أمّا مع اشتداد الحرب أي تحديدا في 2014 و2015 فقد قُدمت الأعمال التي تحاكي الأزمة والتي شكلت جوهر الأعمال الفنية السورية.
أبرز هذه الأعمال هو مسلسل “غداً نلتقي” الذي عرض الحالة المزرية للاجئين السوريين في لبنان، ومسلسل “الندم” الذي تناول الحياة في سوريا خلال الحرب على لسان كاتب تلفزيوني، بالإضافة إلى مسلسل “ضبوا الشناتي” الذي عالج الأزمة وشخصية المواطن السوري خلال الحرب من منطلق كوميدي بحت.
ولم تختلف أعداد الإنتاج بشكل كبير بين 2011 و2019، بحيث كان معدلها سنويا 25 عملا. رقم قد لا يكون كبيرا جدا بالنسبة إلى الإنتاجات العربية الأخرى، ولكنه كبير بالنسبة إلى دولة عانت بشدة من الأزمة.
وهنا يمكن أن نتساءل: هل حلت الأزمة السورية محل القضية الفلسطينية؟ وهل الحدث السوري وحده من حرف البوصلة عن القضية الأولى للعرب أم أن هناك أسبابا أخرى ساهمت في هذا الانحراف والإعراض؟
لعل الجواب نعم؛ فقد استطاعت الأزمة السورية أن تزيح القضية الفلسطينية من سلم أولويات الدراما، إذ أصبحت الشعوب العربية ومجتمعاتها -إبان ثورات الربيع العربي- مشغولة بحالها ومشاكلها تعمل على تضميد جراحها بنفسها دون أن تلتفت إلى غيرها.
◙ الدراما السورية شهدت تراجعا كبيرًا في تناول الشأن الفلسطيني ليغدو هذا الطرح هامشيا لا يرقى إلى مستوى الحدث
غير أن هناك أسبابا عدها بعضهم الأسباب الحقيقية والمباشرة في الإعراض والتغاضي والتي شكلت سمة غالبة طبعت بها الدراما العربية وليس الدراما السورية وحدها ألا وهي جهات الإنتاج.
فكل ما بذل دراميا على المستوى السوري فيما سبق لصالح القضية الفلسطينية اندرج بالأساس تحت الجهد الفردي الذي يحكمه المنتجون.
فلا بد من التأكيد على حقيقة مهمة: إن من يتحكم في المضمون الدرامي هو الممول وهو من يفرض توجهاته الفكرية والسياسية. والمشكلة أن المنتجين غير متحمسين للقضايا المصيرية، فكما يقال: الموضوعات كثيرة والكتاب كثر، إلا أن المشكلة تتمثل في جهة الإنتاج.
ولا ريب أن هناك تقصيرا كبيرا جدا على كافة الأصعدة من قبل جهات الإنتاج تجاه قضية فلسطين والشعب الفلسطيني. فقد أبدت هذه الجهات تحمّسا للمسلسلات التركية المدبلجة وفي المقابل لا نشهد تحمسا موازيا لتبني عرض مسلسلات ذات قيمة فنية عالية تتصدى للقضية الفلسطينية.
فالمسلسلات التركية وما تلاها من بناء مسلسلات عربية على نمط المسلسل التركي مثل “ستيليتو” و”الثمن” وغيرهما الكثير، والتي لاقت رواجا كبيرا بما عالجته من قضايا تتفق مع الذوق العام كالحب والمغامرة والخيانة، كل ذلك ساهم في جعل عجلة الإنتاج تسير في منحى معاكس للاتجاه الفلسطيني، في حين أن “صورة الفلسطيني اقترنت بالدم”، وهذا ما لا يبحث عنه المشاهدون هذه الأيام، لذلك غابت المشاهد الإنسانية المؤثرة.
هذه بعض الأسباب التي جعلتنا لا نلمس في موسم رمضان 2024 أي عمل سوري يحاكي الوجع الفلسطيني. وفي ظل حرب الإبادة الممارسة اليوم في غزة لا بد أن تخرج الدراما السورية من عباءة الانكفاء على الذات إلى ملامسة الواقع الفلسطيني كما عودتنا لتكون داعما ومساندا في ظل الصراع الوجودي مع المحتل.