"لقطة من عمري" مونودراما مصرية ترصد عزلة البشر في مجتمع مفكك

أثارت عروض مهرجان “أيام القاهرة الدولي للمونودراما”، الذي اختتم أخيرا على مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية، الكثير من القضايا الاجتماعية والفنية الراهنة، ومنها العرض المصري “لقطة من عمري” الذي قدم قراءة للواقع المحبط من خلف ستارة سوداء.
القاهرة – تعتمد عروض المونودراما على أداء فردي متفوق لممثل واحد، لكن ذلك لم يمنع المسرحيات العربية التي شهدها مهرجان “أيام القاهرة الدولي للمونودراما” لفرق من مصر والإمارات والأردن وليبيا والجزائر واليمن والسعودية، من أن تكون مثقلة بالقضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية الشائكة والملحّة.
على الصعيد الفني، فجّرت هذه العروض العديد من الإشكالات الجمالية والتعبيرية، ومن بينها العرض المصري “لقطة من عمري” الذي ناقش بوعي في قالب فني متطور أزمات الإنسان المعاصر في زمن التسليع وسيطرة الآلة والقيم المادية. حينما تتحول النبضات القلبية إلى أرقام، فإن الإنسان يصير بدوره قاطرة بشرية، تتحرك وفق معطيات حسابية، هذا ما وصل إليه عرض “لقطة من عمري” من تمثيل وائل زكي وإخراج نور، فالمجتمع المتشرذم المبرمج ينفي البشر خارج ذواتهم الحرة البريئة، ويحولهم إلى دمى خرساء تحركها الحبال في أيدي القوى المهيمنة.
طرحت المسرحية صورة العالم السوداوية القاتمة من خلف ستارة سوداء شغلت فضاء المسرح، فكأنها بداية الحياة، ونهايتها، وما بينهما.. وجاءت قضايا المصير الإنساني البائس في العرض من خلال لعبة صراع الأجيال، حيث يسلم الجد ميراث البؤس والتحجر للأب، الذي يسلمه بدوره للابن، وهكذا تستمر سلسلة من المآسي المتوالدة، وتتكرر النسخ الميّتة.
هؤلاء البشر/ الآلات، المنسلخون من جلودهم وأرواحهم، يمثلهم جميعا شخص واحد، هو ممثل العرض المونودرامي، الذي تمكن من تغيير جلده وتنويع أدائه وملابسه ببراعة، فهو الفرد وهو الكل معا، وهو الماضي والحاضر والمستقبل، وهو بداية رحلة الشقاء ومنتهاها.
وجاء الكبت والعزلة والعجز وفقدان الإرادة وضياع الهوية والانخراط في التغييب والهلاوس على رأس قائمة المشكلات والمكابدات التي وصلت بهؤلاء البشر (الصور المتكررة) إلى التنميط والتحنيط، فهم متشابهون في الغياب والغيبوبة، منفيون خارج المكان والزمن.
العيون البشرية هي مجرد زجاجات ونظارات، والتبعية والانقياد من سمات كل فرد يبحث عن مرجعية ولا يجدها، والسلطة الأبوية ربما تبدو قطبا مركزيا أوليا “أنا مجرد ظل لك، ملكيتك الخاصة يا أبي”، لكنها خاضعة لمركزيات أخرى فوقية.
وعرف الممثل الفردي كيف يملأ فراغ المسرح بحضوره الواثق المتنوع في الشخصيات المتعددة، ذات الملامح والأزياء واللغات (القواميس) المتباينة بحسب طبيعة المكان والعصر، وانسجمت السينوغرافيا التي حوّلت الدنيا إلى صندوق غامض مظلم مع أجواء العرض القاتمة نفسيا، وتناغمت الحركة والانطلاقات والاستعراضات الجسدية مع روح كل شخصية، بمصاحبة موسيقى تعزفها الوتريات والنايات في طقس كامل من الوجع والنزيف المشع دما ونورا وإحساسا.
هذه الهشاشة الإنسانية والرهافة الشعورية والفيوضات الداخلية المتدفقة على خشبة المسرح، من خلال السرد والحوار والإشارات والترميزات الجسدية، شكلت نقيضا للتعنّت والقسوة والتحجر والغلظة، وهي صفات جسدتها المسرحية في بعض الآباء (القوى السلطوية)، ومثل هذه القوى التي لا قلب لها تراها المسرحية هي المسؤولة عن ضياع الناشئة واتجاهها إلى العنف والتطرف والإدمان، فقد ربى الآباء الأبناء من أجل “زمان لا يأتي”، ومن ثم فإن الفقدان هو مصيرهم.
واشتمل الديكور الذكي على نماذج من صور هؤلاء الآباء والجدود، مع إتاحة إمكانية تعديل الأبناء لهذه الصور الموروثة، ليكونوا هم بدورهم نسخا منها، بما يعني أن المأساة قابلة للتكرر، طالما أن الهواء “المتنفس” لم يتجدد بعد.
ناقشت المسرحية كذلك قضايا ومفاهيم عالقة أخرى، على رأسها المعنى الحقيقي للحرية المسؤولة، وكيف أنها تبدو لدى البعض بالخطأ على أنها انفلات جنسي أو شذوذ، في حين أن هذا الجموح يقود إلى الشطط وإلى المزيد من التدمير.
كذلك، فإن المعنى الحقيقي للرجولة ليس مجرد الفحولة أو الاستقلال عن الآخرين، وإنما القدرة على قيادة الذات بحكمة وتوجيهها إلى المسار الصحيح، في زمن كل ما فيه يرقص ويهتز ويجري في أي اتجاه دون وعي، أملا في بلوغ الهدف بغير جهد واستعداد “آه لو لعبت يا زهر.. واتبدلت الأحوال”.
واتخذ العرض من العشق نقطة انطلاق لبلوغ سائر الآمال الإنسانية الأخرى، ومنها الحرية والإرادة والتحقق والكرامة “أحبكِ أيتها الإنسانة التي غيرتني، قريبا سأتخرج وأعمل وأحقّق إنجازا، انتظريني يا مهجة الروح، تحدثي، هل فقدتِ صوتكِ؟”.
وعلى الرغم من عدم اكتمال دائرة هذه العلاقة العاطفية وبقائها معلقة، فإنها تظل باعثا أبديّا للأمل والحلم والرغبة في التغيير، وهذا يكفي كخيط نور مبدئي في الظلام الدامس الذي اختفت فيه ملامح الإنسانية، فحالة الحب تعني أن يظل الفرد دائما “مرفوع الرأس”، قادرا على الصمود والمقاومة.
ومن بين ما أثاره العرض المسرحي كذلك، سطوة التكنولوجيا على عالمنا المعاصر، خصوصا الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعي، ومواقع الإنترنت الغرائزية، الأمر الذي أدى إلى المزيد من الاغتراب والخواء والتدمير والتغييب، وموت أسمى ما في الإنسان وهو الحوار من خلال التواصل الفعلي المباشر.
قدم العرض العديد من الحلول الإصلاحية من أجل استرداد الإنسان إنسانيته، وتخلصه من أمراض العصر، منها أن يكون إيجابيا مشاركا، قادرا على مواجهة المشكلات، لا الهروب منها، واختتمت المسرحية بمواجهة أسلحة التطرف (المسدس والسكين) بواسطة التدين الوسطي المعتدل، والإسلام التصوفي المتسامح القائم على المحبة والتقرب إلى الله بقلب سليم.
“لقطة من عمري”، مسرحية مكثفة، أطلقت صرخة في وجه أولئك الذين يسلبون الإنسان القوة، ويحولونه إلى كائن ضعيف مهزوز، فهناك دائما لقطة أصيلة في العمر لم تفسد بعد، يمكن اعتمادها كبداية للتغيير والانطلاق.