لا منقذ للبشرية اليوم سوى "العقل المحكم"

العالم يتغير، ومعه تتغير مجالات حياتية كثيرة مثل الاقتصاد والسياسة والنقل والثقافة والتعليم، وكل ما يرفض التغيير مصيره التحجر والركون إلى الظل. ولا تخرج المعرفة، باعتبارها هاجس الإنسان منذ القديم، عن هذا التغيير، فهي تتغير كل يوم وكل لحظة، وبالتالي من الضروري تحيين أو تغيير أساليب تحصيلها، وهو ما يدعو إليه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران.
تونس - يُعد إدغار موران من أبرز المفكرين الذين اهتموا بدراسة التحديات التي تواجه التربية والتعليم اليوم، وهو ما حاول ترسيخه في العديد من مؤلفاته مثل كتابه “العقل المحكم” الذي ترجمه أخيرا إلى اللغة العربية الباحث التونسي في علم الاجتماع المنصف ونّاس، الذي رحل منذ أيام في تونس متأثرا بإصابته بفايروس كورونا المستجد.
ويمثل الكتاب الذي راجعه فرج معتوق، دعوة لإصلاح الفكر قبل التعليم. ويؤكد فيه موران على ضرورة استعمال العقل المحكم القائم على التفكير في المنطق والاستقراء والاستنتاج والنقاش والحجاج، وهو ما يعبر عنه بالعقل البنّاء، القائم على الاتصال والانفصال والتقطيع والترتيق في بناء المعارف.
العقل المحكم
يضم كتاب “العقل المحكم”، الصادر عن معهد تونس للترجمة، تسعة فصول وأربعة ملاحق. حيث يفتتحه موران بفصل بعنوان “التحدّيات”، يدعو فيه إلى تجاوز الاختصاص شديد الدقّة الذي يمنع رؤية “الشّامل والجوهري”، متطرقا إلى ضرورة التّفكير في مشكلة التّعليم لما يمثّله من خطورة جرّاء تجزئة المعارف.
وفي الفصل المعنون بـ”العقل المحكم”، ينتصر المفكر للعقل القائم على الانتقاء والتّنظيم، بمعنى العقل المؤهل لتنظيم المعارف حتى يتسنّى ربطها وإعطاؤها معنى دالا. ليبيّن تحت عنوان “الوضع البشري”، كيفيّة مساهمة الثّقافة العلميّة في دراسة الوضع البشري، ويوضح أن العلوم الإنسانيّة والعلوم الطبيعيّة المجدّدة والمجملة تساهم في إعادة إحياء الأرض والعالم والطبيعة، ومن ثمّ إعادة إدخال الوضع البشري في الكون والأرض والحياة وتحديد موضعه.
العالمية هي مصير الإنسان وعلى التربية أن تبيّن أن البشر يشتركون في نفس المشاكل ويعيشون مصيرا مشتركا
وفي الفصل الرابع المعنون يتطرق موران إلى “تعلّم كيفية العيش”، مشيرا إلى أنّ تعلّم كيفيّة العيش لا يقتضي معارف فحسب، وإنّما يستدعي أيضا تحويلها إلى حكمة داخل كينونة التلميذ الذهنيّة، ودمج هذه الحكمة طوال حياته، بمعنى آخر، تحويل المعلومات في التربية إلى معرفة وتحويل المعرفة إلى حكمة.
ويتطرق الفيلسوف الفرنسي إلى مجابهة الارتياب تحت عنوان “تعلم العيش، تكملة”، مبينا أهمية التّهيئة البشريّة لمجابهة الرّيبيات (المصير المستراب لكلّ فرد وللبشريّة جمعاء). كما يبيّن طريقة “تعلّم وضع المواطن”، وأهمية مساهمة التّربية في التّكوين الذّاتي للشّخص وتعلّم كيف يصبح المرء مواطنا.
وعنون موران الفصل السابع من كتابه بـ”المراحل الثلاث”، ويقصد بهذه المراحل: الابتدائي والثانوي والجامعي، مبينا فيها أنّ التّعليم يمكن أن يتنقّل بين المعارف الجزئيّة ومعرفة ما هو شامل. داعيا إلى “إصلاح التفكير” وإلى ضرورة إيجاد فكر قادر على تحقيق الرّبط والتّضامن بين المعارف “المفكّكة”، وقادر أيضا على الامتداد إلى أخلاقيات الرّبط والتّضامن بين البشر.
ويختتم الكتاب ببحث حول “في ما وراء التناقضات”، دعا من خلاله المؤلّف إلى ضرورة إعادة التسلّح فكريّا من خلال تسليط الفكر على التّعقيد، وضرورة مواجهة تحدّيات “الاحتضار/ الولادة للمرحلة الفاصلة بين الألفيتين ومحاولة التفكير في مشاكل البشريّة في الحقبة الكوكبيّة”.
وطرح المؤلّف في الملاحق قضايا ثقب اللائكيّة الأسود والتخصّصية البينية والمتعدّدة والعابرة علاوة على قضية الهجرة والاندماج ومفهوم الذّات.
إن أهمية طرح إدغار موران (واسمه الحقيقي إدغار ناحوم، فهو من أسرة يهودية علمانية) لا تتأتى فقط من رؤيته الشمولية، بل من تجربته الطويلة مع الفكر والنضال، ما خلق له رؤية أبعد من الرؤى المكتبية المنغلقة، إذ استنبط أفكاره مما حوله، فهو دائم التأثر والتأثير في علاقته بما يحدث وليس منعزلا مطلقا عن عالمه.
فقد زاوج موران بين طلب العلم والنضال من أجل قضايا عادلة، إذ أيّد استقلال الجزائر وناصر القضية الفلسطينية، وكان من المساندين القلائل للرسام الفرنسي الساخر سيني عندما اتهم ظلما بمعاداة السامية. بدأ حياته مقاتلا في صفوف الجمهوريين خلال الحرب الأهلية الإسبانية في أواسط الثلاثينات، ثم انخرط في الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1941، وانسلخ منه في مطلع الخمسينات بعد أن تبدت له الطبيعة الشمولية للمنظومة الاشتراكية.
وبالنسبة لمشروعه الفكري والنقدي، أولى موران اهتماما خاصا بالتعليم، حتى أن بعض الجامعات في جنوب أميركا أطلقت اسمه عليها. فهو من أبرز الشخصيات التي اهتمت بصفة خاصة بفلسفة التربية، حيث حاول تناول مسألة التربية، وبعدها المعرفي في سياق براديغم فكري جديد مركب يعترف بالطابع المركب للمعرفة والإنسان، ليبزر في الأخير دور التربية في التنمية المعرفية لدى التلميذ.
ويحرص موران في كتاباته بشكل خاص على الدور المعرفي الذي ينبغي على التربية أن تؤديه من خلال أنظمتها التعليمية. وتتحدد هذه المهمة في نظر الفيلسوف في تعليم كيفية مواجهة العمى واللايقين المعرفي الذي يهدد كل عملية معرفية إنسانية.
ويرى موران أنه يلزم على المدرسة التوفيق بين ثلاث مهام أساسية :أنتروبولوجية، مدنية، ووطنية. فالمهمة الأنتروبولوجية، تنطلق من أنه ليست الثقافة بمفردها من تكمل تهذيب الطفل، بل أيضا يجب تطوير أفضل ما لديه، نظرا إلى قدرة الكائن الإنساني على القيام بالأفضل والأسوأ، أن يتهاوى أو يتسامى.
ويؤكد موران على أن المدرسة مدنية، لأنها ملزمة بتكوين مواطنين قادرين في الآن ذاته على التمتع باستقلالية ذاتية، ثم اندماجهم في مجتمعهم. أما أن تكون المدرسة وطنية، فينبغي لها المساهمة في تطوير خاصية الحياة والتفكير للمجتمع. وعلى المدرسة أن تسمح لكل واحد بإمكانية تحقيق تطلعاته، لكن دائما بين طيات جماعة. لذلك أقول بأنها تشغل تماما وظيفتها حينما يتأتى أن تلقن في ذات الآن فكرة المسؤولية الشخصية والتضامن مع الآخر.
غياب الفهم
يقرّ موران أن وظيفة التعلم هي ممارسة الحياة، ويعتقد بوجود ثغرات مفصلية تهم البرامج التعليمية بشكل خاص، حيث نفتقد إلى تعليم حول ماهية المعرفة، حيثياتها، عاهاتها، صعوباتها. ليست المعرفة صورة شمسية موضوعية التقطت للواقع، جاهزة للاستعمال، لكنها سيرورة تترجم وتعيد البناء، مجازفة دائما بالخطأ.
ويشدّد المفكر الفرنسي على أن الدعوة إلى التعلم من أجل الحياة، لا تكمن في تقديم الوصفات، بل تلعب الإنسيات دورا مهما فيها. فالأدب منفذ مهم نحو معرفة الكائن البشري. أما الفلسفة، فهي تمرن على القدرة لتأمل الذات، إنها آلية للتفكير قصد الإقتناع بممارساتنا في الحياة. أيضا نجد المسرح، الشعر، الفن والموسيقى، كلها تجسد الشغف والإحساس الذي تمر عبرهما المعرفة. فالأفكار لا تنتقل إلا عبر الشغف، فإذا غاب هذا الأخير، يصاب الفكر بالهزال، ويحكم علينا بتجزئة معارف جافة.
نظرية موران يؤكد عليها كذلك في كتاب آخر وسمه بـ”تربية المستقبل”، هذه التربية التي تبدأ من التأكيد على أن المعرفة ليست يقينية. ثم يحدد الفيلسوف أنه من أهم وظائف التربية هي تعميق مفهومي الوحدة والتنوع البشريين لدى الإنسان، إذ ترسخ فكرة وحدة التنوع البشري، كما ينبغي لها أن تعلم فكرة التنوع دون المساس بفكرة الوحدة.
ويرى موران أن العالمية هي المصير المشترك للإنسان، ولذلك على التربية أن تبيّن “أن البشر يشتركون منذ الآن في نفس مشاكل الحياة والموت، ويعيشون مصيراً مشتركاً”.
بينما يبيّن علوية “الفهم”، حيث أن أحد الأسباب الرئيسية لتمزق العالم يرجع إلى غياب الفهم، وذلك بغيابه عن المؤسسات التربوية، ومن ثم ينتج هذا الغياب غيابا للسلام بين بني البشر، فالفهم وسيلة لتنمية الوعي الحواري، وكما أنه سياج حام من الوقوع في مزالق الخطأ والوهم المعرفي، والطريق للبعد عن هيمنة المعرفة المجزأة، وهو الرابط بين الأجزاء والكليات، وهو السبيل للاعتراف بالآخر و التواصل بين بني البشر.