"لا مفر" فيلم يقدم رسائل مجازية دون حسابات سياسية ضيقة

الفيلم الجديد للمخرج جون إيريك دودلي المعنون بـ”لا مفر” يقدم مكاشفة قوية للرأي العام الأميركي بشكل خاص، والغربي في عمومه، عن نتائج السياسات التي تنتهجها بلدانهم في الدول البعيدة والفقيرة، وهو من أفلام القليلة جدا التي تقدم رسالتها دون حسابات سياسية.
فهو على العكس مثلا من فيلم مايكل مور السابق “فهرنهايت 911”، الذي رحب به قطاع كبير من المجتمع الأميركي وقت صدوره عام 2004، لهجومه العنيف على الرئيس وقتها جورج بوش الابن، وصفقنا نحن العرب معهم دون أن ندرك أن مور كان فقط ينتصر للحزب الديمقراطي الذي خسر مرشحه آل غور الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل عام 2000 أمام بوش نفسه.
ومع ذلك فالغريب أن أغلب كتابات النقاد الأميركيين الذين رحبوا بفيلم مور السابق هاجمت “لا مفر” بعنف غير منطقي، ما يضعنا أمام فرضية وحيدة لتفسير هذا الهجوم هي، عدم رضاهم عن الإدانة الواضحة التي يحملها الفيلم للعقول الإمبريالية التي تدير الغرب، وتسبب خرابا متعددا لكل شعوب العالم، على المستوى الإنساني والاقتصادي والعسكري.
ما يعزز الفرضية تأخر إنتاج الفيلم ثلاث سنوات كاملة، حيث كان من المقرر بدء تصويره صيف عام 2012 تحت اسم “الانقلاب” بنفس البطلين والمخرج، الذي اضطر في النهاية للدخول كمنتج مشارك مع شركة بولد فيلمز، من خلال شركة الإنتاج التي يملكها مع شقيقه درو الذي شاركه كتابة سيناريو الفيلم.
الفيلم يرصد قصة أسرة أميركية، فقد عائلها جاك دواير الذي يجسد دوره أوين ويلسون عمله في بلاده، بفضل وحشية رأس المال في الغرب، فاضطر لإغلاق شركته وقبول وظيفة في شركة أميركية في إحدى دول شرق آسيا التي لم يسمها الفيلم، واضطرت زوجته للسفر معه، رغم ضيقها حتى يلتئم شمل الأسرة التي تضم طفلتين كذلك.
في الليلة السابقة على وصول الأسرة لتلك الدولة جرى اغتيال رئيس الوزراء الذي توسع في عقد صفقات تجارية مع شركات غربية، ثم تزامن مع وصول الأسرة انطلاق الثوار في موجات جنونية بالشوارع للانتقام من أي أجنبي يرونه في طريقهم، لتبدأ متاعب جاك دواير وأسرته، حيث يستمرون طوال أحداث الفيلم في الفرار من الموت، وتربص الثوار الإرهابيين بهم إلى أن ينجحوا في النهاية في النجاة بأنفسهم، بعد معاناة بالغة، ومساعدة مقدرة من رجل تعرفوا عليه في الطائرة يدعى هاموند، وجسد دوره بييرس بروسنان.
فنيا تميز الفيلم بسيناريو وإخراج محكمين، يستحق جون إيريك دودلي الفوز بأوسكار عن أحدهما على الأقل، حيث يتركك منذ المشهد الثاني للفيلم، وعلى مدة المئة دقيقة المتبقية منه مشدودا فوق كرسيك تتابع رحلة هروب الأسرة المسكينة، من الموت الذي يحوم حول أنفاسها في كل دقيقة، ويبلغ بك التماهي مع السيناريو حد الشعور بأن من يهرب من الموت ليس ممثلين في فيلم هوليوودي، وإنما قد تكون أنت وأسرتك.
الكراهية المتنامية التي يزرعها الفيلم داخلك تجاه الثوار الإرهابيين المنتمين لشعوب همجية والذين يوزعون القتل المجاني على كل أجنبي، سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا، يبررها المخرج على لسان هاموند خلال مساعدته الأسرة على الهرب من الموت
برع دودلي الذي تخصص، منذ احترافه الإخراج السينمائي في أفلام الرعب، في استخدام تنويعات زوايا الكاميرات والإضاءة لإدخال المشاهدين في أجواء الفيلم.
الرعب من الموت المجاني والتعاطف مع الأسرة اللذان تشعر بهما طوال الأحداث يحسبان للمخرج وليس عليه، حيث تمكن من كسر الحاجز الهلامي بين المشاهد وأبطال الفيلم، ليخلق حالة يمكن تسميتها بالمشاعر التفاعلية التي تنتاب اللاعبين في ألعاب الفيديو. وقد بلغت هذه الحالة ذروتها، عندما يضطر الأب جاك دواير إلى إقناع زوجته بالقفز من بناية إلى أخرى رغم فزعها، ثم يلقي ابنتيه بعدها في محاولة لإنقاذهن من القتل.
المفاجأة أن الكراهية المتنامية التي يزرعها الفيلم داخلك تجاه الثوار الإرهابيين المنتمين لشعوب همجية والذين يوزعون القتل المجاني على كل أجنبي، سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا، يبررها المخرج على لسان هاموند خلال مساعدته الأسرة على الهرب من الموت، حينما يستفسر منه جاك عن سر مساعدته لهم، فقال الأخير: إن رجالا مثله مسؤولون عن مآسي رجال مثل جاك، الذي عاد ليسأله عما إذا كان أحد عناصر المخابرات البريطانية أم آي 6، فيرد الأخير بأنه شيء من ذلك”. بعدها سأله عن سبب هذا الجنون، فرد هاموند بقوله أن بلادهما “أميركا وبريطانيا” لهما مصالح في هذه البلدان الفقيرة، لهذا تسعى إلى إقناع زعمائها بمشروعات استثمارية تفوق قدرات بلادهم، فيضطرون للاستدانة من الدولتين وعندها “نكون قد امتلكناهم”.
إذن نحن أمام رسالة مجازية عن نظرة الحكومات وأجهزة المخابرات الغربية للعالم الثالث، ودورها في إغراق دوله، تحت وطأة الديون والفقر المستمرة التي تخلق بدورها حالة عدم الاستقرار السياسي والمجتمعي في تلك الدول، ومن ثم تفرز جماعات إرهابية بين الحين والآخر، تسعى إلى تفريغ سخطها دون تمييز بين مواطنيها أو المواطنين الأبرياء لتلك الدول.
رسالة ثانية، بالغة الإنسانية يقدمها الفيلم، حين تنجح الأسرة في الحصول على قارب صغير يعبرون به نهر يقع على حدود تلك الدولة المجهولة، والمفارقة أن الدولة التي تمثل الأمل الوحيد لهم في النجاة بحياتهم، هي فيتنام التي خاضت فيها أميركا حربا ضارية في ستينات القرن الماضي وخرجت منها بعد 11 عاما مهزومة.
رسالة ثالثة، قدمها الفيلم عندما واجه هاموند الذي يمثل الأجهزة المسؤولة عن صنع مآسي الشعوب، آلة عسكرية يقودها مجموعة من الثوار الدمويين في محاولة لمطاردة جاك وأسرته، فيطلق النار على سائق السيارة الذي يدهسه تماما، قبل أن ينحرف عن طريقه وتحترق السيارة بمن فيها.
مقارنة ذلك المشهد مع مشهد نجاة الأسرة، يحقق رسالة الفيلم بأن الموت هو مصير الإرهابيين ومن صنعوهم في دول الغرب، بينما الشعوب مصيرها التلاحم والغفران اللذان هما مكونان أساسان من مكونات الحياة البشرية.