"لا تسبح في نفس النهر مرتين" سينما تعتمد على الشعر

ربما أشهر من حاز لقب “شاعر السينما” هو المخرج والكاتب الروسي أندري تاراكوفسكي، الذي نجح في تخليد اسمه عبر أفلام خالدة مثل “المرآة”، كواحد من أهم السينمائيين العالميين، لكن الشاعرية تسربت إلى الكثير من المخرجين الذين قدموا للسينما أعمالا غير مألوفة، خاصة تلك التي تجمع بين أكثر من فن وأكثر من جمالية.
الحياة نهر سيّار، لا ينتظرنا ولا يتوقف عند لحظة معينة ليلتفت إلى الخلف، فما أن نضع قدمنا الثانية فيه حتى تنفلت منا وتجرفنا المياه إلى أقصى تدفقها. لكننا مجبرون على سلك نهر الحياة ولو كنا مجرورين عبر دروبها الصعبة والضيقة.
هذه الرؤية تتحقق في فيلم “لا تسبح في نفس النهر مرتين”، وهو فيلم قصير للسيناريست والمخرج المغربي محمد بنعزيز، جاء تتويجا لما يؤمن به الرجل من رؤية سينمائية متجددة، جاعلا من شباب/ طلبة أبطالا لفيلمه، وقد كانوا عند الموعد يسلكون ما يرسمه لهم صاحب الفيلم من مسالك تمثيلية عليهم عبورها أمام عين الرائي الأول/ الكاميرا.
الماء بطل سينمائي
يتخذ بنعزيز من ثيمة الماء (الحوض) منطلقا ومنتهى لشريطه القصير، بل إن الأحداث طارئة وتسيل وتنسكب متوالية مع انسكاب وسيلان مياه ساقية المدرسة. في تناغم بين المياه والورد في ما يشبه لوحة انطباعية من إنتاج ريشة ماتيس أو مانيه، تغلب عليها شاعرية الداخل وتقلباته.
تجمع صور الفيلم بين انطباعية الماء والورد كأنها لوحة تشكيلية عائمة في الحوض المائي، تمتزج بأصوات الأقدام والحكايات العابرة التي يتناقلها الشخوص الذين يمرون بشكل سريع وعابر على ساقية المدرسة، لكنهم لا يتوانون يرجعون إليها، ما يجعل من الحوض الحلقة الرابطة بين كل الأحداث المتوالية عنيفة أو رومانسية.
تتحول الساقية إلى قفزة بصرية اختارها المخرج بشكل شبه ثابت للانتقال من حدث إلى آخر، والمفتاح الذي يدخل المتلقي من حدث إلى آخر، والخيط الذي يجعله يربط علاقة قوية بين الماء ووقائع الشريط.
وكما يؤكد بنعزيز فـ”سرديا تجري الأحداث يوم الثامن من مارس، تتلقى البنات وردا، وحين يلقى الورد في الحوض المائي وتتغير الإضاءة يصير الحوض لوحة انطباعية. الصور التشكيلية ثابتة، بينما الصور السينمائية كتلة يعمل فيها الزمن. لذلك حين يقع حادث تغرق الوزرة البيضاء في الدم فيتغير لون ماء الحوض”.
ولأن للماء شعريته الخاصة، فهو يحضر بوصفه مكوّنا بنائيّا للأحداث، يمتاز بثرائه الدلالي والمعرفي الإنساني، إذ يتّسع معه المعنى، وتنطلق منه الأفكار التي يكوّنها المتلقي تجاه سيرورة المشاهد والمتواليات الفيلمية. فتتماهى وسطه القصة التي تتقلب وقائعها قرب الحوض دائما. مثلا حين تقع ورقة الغشاش في الماء ينكشف. وحين يوبخ على غشه يجيب قائلا: هذا حديث لم يروه البخاري.
السينما والتشكيل
في المقابل هناك تكامل كبير مع الفن التشكيلي حيث نجد أنفسنا أمام ملصق جميل لفيلم متقن، من إنجاز وتصميم الفنان التشكيلي المغربي المعاصر رشيد باخوز، الذي يختزل حالة الغرق التي تستحوذ على أنفس الأبطال وهم يتعرضون للسيول الجارفة/ الحياة، بكل ما تحمله من غيرة وحسد وحب وكراهية وتضامن وغيره. كلها في اتجاه الموت المحتوم.
وعن الملصق يقول صاحب الفيلم، “التقط الأفيش الذي وضعه الفنان رشيد باخوز الخلفية التشكيلية للفيلم، وهذا مهم بالنسبة إلي لأني بدأت حياتي الثقافية بكتابة القصة، لذا فأنا مشغول باستمرار بهذا الانتقال من السرد للأذن إلى السرد للعين”.
ويضيف قائلا، “في الأدب نبحث عن قصة لتقنع عبر الأذن والخيال. في الرسم نبحث عن شكل وعمق ولحظة مقتنصة. في السينما يبحث المخرج عن صورة تجمع القصة والشكل. يطلب المتلقي صورا أكثر مما يطلب من كلمات. لذلك يركب المخرج صورا شرط أن تكون الصور المقتنصة كثيرة ومتصلة متتابعة سببيا أي أنها تحكي”.
ومن جانب آخر يخبرنا الفنان التشكيلي رشيد باخوز بأن فكرة الملصق جاءته بناء على ما يتمتع به الفيلم من ارتباط وثيق بثيمة الماء، وثانيا من حدثين استلهم منهما موضوع الغرق الذي يبرزه الملصق، ولهما علاقة بالغيرة التي ولّدت القتل، فالإنسان الذي تُثار غيرته قد يصل إلى درجة الاحتقان والرغبة في الانتقام، غير أن الشخصيتين الرئيسيتين تقف علاقاتها على هشاشة الورد وتتدفق مع الماء الذي يصعب الإمساك به.
شعرية الصورة
يبدأ الفيلم بالورد والماء وينتهي عنده، غير أنه يبدأ صافيا وينتهي بتعكره بالدماء، دماء الغيرة والحسد. كأن الماء هو الذي يحيي الأحداث ويعطيها روحها لتستمر، فتنتهي بحضور الدم الذي يعكّر صفوه.
وقد ارتبط الماء ارتباطا وثيقا بالخيال والتخييل، ببناء الصورة وانعكاساتها، بل إنه تلك المرآة التي عكست صورة نرسيس ليغرق في النهر الذي صعُب عليه السباحة فيه.
إننا حقا لا نسبح في النهر ذاته مرتين، كما سبق وقال هيرقليطس؛ لكننا مأخوذون بشعرية مائه، بل قدرنا الماء الذي نغتسل به عند الولادة وعند الموت، محاطون بالماء من البدء إلى النهاية.
ويرى الفيلسوف الفرنسي باشلار أن الكائن الذي قدره الماء هو كائن دائخ ويموت كل لحظة، ومن دون توقف يسيل شيء ما من مادته، “الماء يجري كل يوم، يهطل كل يوم”.
ولأن مفهوم سكون الماء عند الفيلسوف عينه رديف الكآبة والضيق والملل، فقد استطاع الفيلم أن يدب في أحداثه الحياة والنشاط والحيوية عبر انسكاب الماء المستمر وبلا انقطاع في الحوض، بل مع كل توقف للشخوص للشرب من الصنابير تنقلب الأحداث وتتغير مساراتها.
نجح الفيلم في أن يجعل من نفسه مسرحا مصغرا للمجتمع المغربي، خاصة عبر مشهد الأرجل حيث تختلط الأحذية وتتشابك لتبرز لنا الاختلاف الطبقي في هذا المجتمع داخل المدرسة ذاتها حيث تدور الأحداث من البداية إلى النهاية.
كان الانتصار في فيلم محمد بنعزيز لشعرية الصورة، إلى جانب شعرية الماء، على اللغة والخطاب، حيث لم يكن للحوار بين الشخوص الحيز الكبير بالمقارنة مع توالي اللقطات والصور، إيمانا من المخرج بالدور الذي تلعبه الصورة في العمل السينمائي بالمقارنة مع النص الحواري، ففي السينما يبحث المتلقي عما يشاهده أكثر مما عليه سماعه، بل إن الأحداث جلها بُنيت على تتابع الصور وعما ترويه وتسرده لا عما نسمعه.