لارا تابت توسّع حدود الليل بصور فوتوغرافية كئيبة

تستمر الفنانة والمصوّرة الفوتوغرافية اللبنانية لارا تابت في تقديم أعمال تصويرية تُغيّب حينا الحدود الفاصلة ما بين الواقع والحقيقة، وتعيد تشكيلها حينا آخر وفق قوانين بصرية وفكرية تُبدّل أو تُعمّق النظرة إلى المشاهد المطروحة عن عالم مُنغمس في تحوّلاته المدينية والنفسية المُهلكة في أغلب الأحيان.
بيروت - ضمن سياق ما قدمت من أعمال ومعارض سابقة تقدّم الفنانة والمصوّرة الفوتوغرافية اللبنانية لارا تابت في صالة “جانين ربيز” البيروتية معرضا لصور فوتوغرافية وتجهيز فني قالت عنه إنه “الكشف عمّا هو مخفيّ.. المدينة مليئة بقوى الشر المتأصلة”.
ومن خلال المعرض كشَف الزوار أو أنهم سيكتشفون أنه يعتمد بشكل رئيسي ليس على تسليط الضوء عليه أو محاولة تأويله ولا على تشريح خباياه، بل يعتمد على العتمة لكي تبسط كلمتها الفصل عليه. والمعرض هو كشف عن الظلام بواسطة الظلام، معرض في الليل عن الليل، وقد تخلّى عن صفته الزمنية المُباشرة ليصير مفهوما يطال حتى الجرائم التي تقع في وضح النهار.
كآبة شعرية ترشَح من صور لارا تابت مصدرها أيضا الواقع “المُفرط”، وقد تلبّس بالخيال حتى بات واحدا.
وكل الصور المعروضة مسرحها الليل. وقالت الفنانة حول هذا المعرض “بما أن التصوير النهاري والليلي لا يزال يثير الشبهات عندنا، تعرّضت أثناء التصوير لمساءلة الشرطة التي استجوبتني مرارا بتهمة التعدي على ممتلكات الغير”.
توسعت الشوارع لشدة وحشتها وتوسع حدود الليل ومعانيه، فلم يعُد ظاهرة طبيعية بل أضحى مكانا مكثفا ولزجا وضاغطا ألقى بثقله على الأنفس. وقد يكون مردّ اتساع الليل، الذي تُبحر في طياته الرطبة لارا تابت، أولا، أن معظم الضحايا لا تبدو عليهم آثار القتل أو التعذيب، فضاعف هذا الغياب للآثار (أفواه الجرائم الناطقة عن مرتكبيها) من هول الجريمة وشرّع تعميمها وصرّح عن صعوبة إلقاء القبض على “مُدبّريها”.
ثانيا، وجود الضحية في الصور مُلقاة في وحدتها القاتمة على جوانب الأزقة المُتسخة، مرمية كالنفايات التي لا يبالي بها أحد، وهي تسمم ما يحيط بها ببطء وصمت، فيصبح المشهد الأوسع، بدوره مُغتصبا من الضحية المُغتصبة من مجتمع احتضن موتها كولادة من عجينة الشرّ والعدوانية.
ثالثا، أن المُصوّرة وضعت الضحية مرمية بين أبنية شاهقة وأخرى قيد البناء. والبناء كفكرة أولية تتناقض مع الموت والقتل والدمار، لكنها تحوّلت في صور لارا تابت إلى رمز للموت في مدينة كبيروت تعيش الهدم والبناء كجزأين لا يتجزآن من كيانها حتى صارا من صلب هويتها.
وتقول الفنانة حول المعرض إنها اشتغلت على تحضيره لمدة سنتين، وقد استوحت فكرته من “رواية للأميركي اللاتيني روبرتو بولانيو (1953-2003) وعنوانها ‘2666’، وهي رواية تؤرخ لمقتل أكثر من مئة امرأة في مدينة مكسيكية، مع تحقيقات الشرطة المحلية المُستمرة وغير المجدية في أغلب الأحيان”.
وحوّلت لارا تابت فصول هذه الرواية إلى سرد بصري مُتقطع تلتئم أجزاؤه المُنتشرة في أرجاء المعرض على فكرة أساسية، وهي غلبة الشر والعنف الكامن والظاهر في العالم المعاصر، ولاسيما العالم المديني دائم التبدّل.وعمدت لارا تابت، السيناريست والطبيبة المتخصصة في الأمراض السريرية، إلى تحويل الرواية الأميركية التي تتحدث عن قصة مدينة مكسيكية إلى رواية بصرية تروي فصول جرائم حدثت في بيروت ضحاياها من النساء، ذلك أن معظم أماكن الجرائم هي أماكن معزولة وإن نسبيا أو تقع على تماس ما بين منطقة وأخرى.
وأمضت المصوّرة وقتا طويلا حتى عثرت عليها لتصوّر نسوة أخذن أدوار الضحايا. ومن تلك الأمكنة التي حدثت فيها هذه الجرائم نذكر أزقة بيروتية مهجورة ومرائب للسيارات وورشات للبناء.
ولا يعتمد هذا المعرض على هذيان تخيّلي لدى الفنانة لمشاهد عنيفة ولآثارها، بل تعود مرجعيته إلى فرع من فروع الطب، وهو الطب الشرعي وثيق العلاقة مع الفوتوغرافيا كأداة لجمع الأدلة وتوثيق التفاصيل، أداة تؤازره في محاولة لتفكيك دوافع وأسرار الجرائم، واقتفاء آثار المجرمين.
زائر المعرض على يقين بأن لارا تابت انتحلت شخصية المُتقفي لأثر قاتل مُفترض في بيروت، وأنها جالت في شوارع بيروت الليلية بحثا عنه، وهو لم ينفك يحصد ضحاياه، ضحية بعد ضحية، و”صورة” بعد “صورة”.
ويدرك الزائر تماما أن المُصوّرة تقمّصت جسد الكاميرا وعدستها الحادقة في تحركاتها وزوايا نظراتها. ولكنه، أي زائر المعرض، سيشعر أمام صورها أن لا تابت ولا عين الكاميرا ستعثران عليه، لن تعثرا عليه لأنه عمّ مدينة بيروت فلم يعد شخصا مُستقلا ولا كيانا منفصلا عنها، بل أمسى مادة سائلة في نسغها.
ومن هنا تبدو كآبة الصور المعروضة وما يحيط بها من صور أفقية أصغر حجما ترصد بصريات ميكروسكوبية لإفرازات بشرية، تعتمد الشرطة عليها غالبا للتحقيق في ملابسات الجرائم.
ولارا تابت فنانة ومصوّرة لبنانية وطبيبة مولودة سنة 1983، أخذتها هوايتها لفن التصوير إلى أبعاد فنية وفكرية مُلتزمة بقضايا اجتماعية ونفسية مرتبطة بثيمات الذاكرة والنسيان والجندر والعنف والسلام والمدنية، مع شغف يشمل الحب والكراهية في آن واحد تجاه مدينتها بيروت التي أمدّتها بمواضيع لا تنضب.
وسبق للمصوّرة أن عرضت أعمالها في عدد من الدول العربية وفي الولايات المتحدة الأميركية وفي دول أوروبية، غير أن العديد من أعمالها تعرّضت للمنع بسبب المواضيع الشائكة المُتناولة أو بسبب واقعية الصور التي يذهب البعض إلى اعتبارها صورا فاضحة.