كيف فرط الإعلام التونسي في فرصته التاريخية لتطوير نفسه

تونس - دعت هياكل مشرفة على قطاع الإعلام في تونس، مثل نقابة الصحافيين التونسيين والهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا)، إلى ضرورة تنظيم مؤتمر وطني حول الإعلام في البلاد، من أجل إرساء مفهوم للإعلام العمومي ووضع مخططات إصلاحية للقطاع، فضلا عن سنّ إطار قانوني ومؤسساتي جديد لبناء إعلام هادف يحترم أخلاقيات المهنة.
ويتكوّن القطاع السمعي والبصري في تونس من 63 مؤسسة إعلامية سمعية وبصرية موزعة كالتالي: 8 قنوات تلفزية خاصة، قناتان تلفزيتان عموميتان، 18 إذاعة خاصة، 11 إذاعة عمومية، 22 إذاعة جمعياتية، و4 مؤسسات غير قانونية تعمل دون تأشيرة (3 قنوات تلفزية، وقناة إذاعية)، إضافة إلى إذاعتين مصادرتين، فضلا عن 85 جريدة ورقية و81 جريدة إلكترونية، وتضم نقابة الصحافيين نحو 1500 صحافي.
واعتبر عضو الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السّمعي والبصري هشام السنوسي أن “قرار منع صحافيي وسائل الإعلام الخاصة والدولية والجمعياتية من تغطية أشغال الجلسة الافتتاحية لمجلس نواب الشعب الاثنين، فيه نوع من تحميل الإعلامِ المسؤوليةَ، في حين أن الإعلام ساهم بشكل رئيسي في إسقاط البرلمان المنحل”. وأضاف في تصريح لإذاعة محلية أن “منع الصحافيين من القيام بدورهم له دلالات على وقوع مجريات غريبة داخل البرلمان، وبالتالي يهدف إلى حجب هذه الأشياء عن الإعلام”.
وثمن عضو الهايكا زيارة الرئيس قيس سعيد إلى مؤسّسة سنيب لابراس في ظل الصعوبات التي تمر بها هذه المؤسسة، مؤكّدا أن “تونس في حاجة إلى مؤتمر وطني يضم خبراء وأكاديميين وأصحاب المهنة يتم خلاله تقييم ما حدث خلال العشرية الماضية وعلى ضوئه يقع وضع مخططات إصلاحية محددة زمنيا وهذا الأمر مرتبط بالإرادة السياسية”. وأشار إلى أن الهايكا قامت بـ”مدّ مؤسسات الدولة والجهاز القضائي بملفات فساد حقيقية متعلقة بمؤسسات إعلامية مبنية على وثائق من جهات رسمية على غرار البنك المركزي إلا أنه لم يتم التفاعل مع هذه الملفات”.
ويقول متخصّصون في مجال الإعلام والاتصال إن بناء المنظومة الإعلامية يعود إلى الصحافيين المحترفين قبل غيرهم من الدخلاء والمستشهرين، وسط مطالب تنادي بوضع نظام قانوني يحدد من هو الصحافي ويضبط وضعيته المهنية والتدرج المهني ويحدد خاصة نظام التأجير المستحق بما يضمن كرامته مهنيا وماليا واجتماعيا. ويضيف هؤلاء أن قطاع الإعلام في حاجة إلى حوكمة مؤسساتية سيادية وحوكمة مهنية أخلاقية.
وقال صلاح الدين الدريدي، أستاذ الإعلام والعلاقات العامّة، “لقد فرطنا في فرصة تاريخية لإرساء نظام إعلامي وطني متطور يبوّأ تونس مكانة مميزة ضمن الإعلام العربي، ويعود هذا إلى جملة من الأخطاء الجوهرية ارتكبها من تولوا الإشراف على القطاع بعد 2011، مثل حذف المؤسسات الرسمية التي كانت تشرف على القطاع وتعويضها ببرنامج تطوير الإعلام الذي تشرف عليه مفوضية الاتحاد الأوروبي وبهذا بدا استبعاد الدولة من دورها في المشاركة في حوكمة القطاع”.
وأضاف في تصريحات لـ”العرب”، “كان من الضروري تعويض المؤسسات المحذوفة بأخرى جديدة تستبطن متطلبات تجربة الإعلام في مجتمع متعدد مثلما هو الشأن في الأنظمة الديمقراطية التي تحتل فيها الدولة مكانتها اللائقة بدورها في تركيز دعائم حرية الرأي والتعبير، فضلا عن استفراد الهايكا بتعديل القطاع في ظل نقائص تنظيمية وقانونية وإجرائية ومهنية متعددة، وغياب إطار تشاركي يرعى الممارسات الإعلامية الجديدة ويؤطرها قانونيا وأخلاقيا وإجرائيا”.
وأوضح الدريدي أن “الإعلام لا يقوم إجمالا على إرضاء حاجيات الجمهور وإشباع رغباته في الاطلاع والاستطلاع، بل يقوم على خدمة الأجندات السياسية بمختلف مشاربها وعلى الاصطفاف وراء من هو الأقوى”، داعيا إلى “تعويض الهايكا منتهية الصلوحية بهيئة وقتية تتولى عاجلا إعادة تعديل المشهد الإعلامي، عبر تحديد مستلزمات العقيدة الإعلامية الوطنية وشروط ممارسة التنوع والتعدد والمساءلة والتغطية المتوازنة وضبط شروط متابعة الظهور الإعلامي، ونسبة الصحافيين المحترفين داخل المؤسسة ونسبة الوافدين من الاختصاصات المجاورة والشبيهة”.
كما طالب الدريدي بضرورة “تحديد شروط انتداب المنشطين والكرونيكور (المحللين القارين) ومستواهم العلمي ونسبة حضورهم في البرمجة العامة، إلى جانب شفافية مصادر التمويل والمداخيل الإشهارية والملكية القانونية وضبط شروط العلاقة بين الإعلام والاتصال والإشهار وتحديد آليات التسيير داخل المؤسسة وضبط شروط البرمجة ونسبة المساحات الإخبارية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتنشيطية والترفيهية”.
وترى أطراف نقابية أن أزمة الإعلام في تونس تشمل الأوضاع المهنية للصحافيين وهشاشة المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة، علاوة على التهديدات التي تطال حرية العمل الصحافي وتخلي السلطات عن مسؤوليتها في ضمان حق التونسيين الدستوري في الإعلام.
وتقول هذه الأطراف إن السياسات الحكومية المتعاقبة زادت مشاكل القطاع، وسط دعوات إلى ضرورة توفر الإرادة السياسية اللازمة لإصلاح واقع المؤسسات الإعلامية.
وأفادت أميرة محمّد، نائبة رئيس النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، بأن “عقد مؤتمر وطني حول الإعلام هو مطلب قديم متجدّد، وعندما تخلّت الحكومات المتعاقبة عن دورها في إصلاح قطاع الإعلام، اشتغلت نقابة الصحافيين عبر العديد من الورشات والخبراء على إعداد تصوّر للسياسات العمومية في الإعلام، وهذا ما يتطلب توفر إرادة سياسية ظلّت منعدمة لسنوات”.
وأضافت لـ”العرب” أن “واقع الإعلام اليوم في تونس فيه من يؤدي دوره، ولا يمكن وضع الكلّ في سلة واحدة، حيث يوجد إعلام هادف يقدم خدمة جيّدة وأخبارا تكتب بطريقة مهنية من قبل العديد من الأقلام الصحفيّة، ويوجد أيضا دخلاء على المهنة لتكريس صحافة الرداءة وخدمة الأجندات الخاصّة، والنقابة تضرّرت من ذلك لأن العمل الصحفي الجيّد لا يجد قراء ومتابعين في الكثير من الأحيان”.
وفسح غياب رؤية إصلاحية شاملة لتأهيل مؤسسات الإعلام والنهوض بقطاع الصحافة بعد 2011، المجال أمام التوظيف الممنهج للصحافة في غايات سياسية، ما تسبب في تهميش القطاع.
وقالت أميرة محمّد “نرى أنه من الضروري جدّا أن تنفتح السلطة على دعم مؤسسات الإعلام العمومي والمصادرة، إلى جانب المؤسسات الخاصّة التي تعيش عدة مشاكل”. وتابعت “الانفتاح مطلوب من ناحية توفير المعلومة وضمان حقوق الصحافيين وتسهيل عملهم، كما لا يجب أن يكون في إطار المقايضة، وعلى السلطة أن تحترم حرية التعبير وحق الصحافي في النقد والرقابة وإلغاء المناشير التي تهدّد الصحافيين”. واستطردت نائبة رئيس نقابة الصحافيين “لدينا مشاريع قوانين معطّلة تنظّم مهنة الصّحافة في البرلمان، ومن الضروري النظر فيها لتكريس حريّة الصحافة”.
وانعقدت في ديسمبر 2021 أشغال المؤتمر الوطني للسياسات العمومية بتنظيم من النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين وشركائها وبحضور ممثلين عن الهياكل المهنية والمنظمات الحقوقية وخبراء وصحافيين. وطرح المؤتمر طبيعة التعاطي مع الملفات العاجلة في قطاع الإعلام التونسي، وآفاق قطاع الإعلام في ضوء المعايير الدولية والممارسات الفضلى، متناولا بالنقاش قضايا الإعلام على غرار القوانين والتشريعات، والتعديل الذاتي، والإعلام العمومي، والنماذج الاقتصادية لوسائل الإعلام ، والإشهار، وقياس نسب المشاهدة والاستماع، والرقمنة، والتدريب والتكوين ضمن مقاربة جامعة
وشاملة.
واتفق المشاركون على أن قطاع الإعلام في تونس يعيش منعرجا حاسما يهدد بتلاشي وسائل الإعلام وضرب موقع الصحافيين في المشهد العام من خلال تقاعس الدولة عن صياغة سياسة عمومية لقطاع الإعلام تشاركية وشفافة وذات جدوى تعكس أهداف المهنة بكونها مرفقا عاما يقدم خدمة لعموم التونسيين.
وأكّدوا على ضرورة الالتزام بوضع التشريعات الضامنة لحرية الرأي والتعبير ولصحافة حرة ومستقلة، ودعم الإعلام العمومي بمختلف مؤسساته حتى يؤدي أدواره كمؤسسة من مؤسسات الديمقراطية، فضلا عن دعم منظومة التعديل ومنظومة التعديل الذاتي لضمان استقلالية هذه المؤسسات وأدائها لأدوارها.
ويطالب المشرفون على القطاع، من حين إلى آخر، بفتح نقاش حقيقي حول الإعلام وهيئاته لوضع برنامج إصلاحي شامل يراعي حاجة الإعلام العمومي وفق مقاربة تشاركية متناغمة مع المعايير الدولية، ووضع خطة مستعجلة لإنقاذ مختلف مؤسسات الإعلام المصادرة لضمان ديمومتها.
وأثر التخصّص ومحدودية التدريب خارج أسوار معهد الصحافة وعلوم الإخبار (المؤسسة العمومية الوحيدة التي يتخرج منها الصحافيون في تونس) على جودة المادة الإعلامية المقدمة للمتلقي في مختلف المنابر والمحطات الإذاعية والتلفزيونية، ما ساهم في تراجع القدرة على صناعة رأي عام واع بمختلف القضايا واستهدف الرسالة الصحافية في عمقها وجوهرها.
ويوجد إجماع على ضرورة إعادة النظر في وضع معهد الصحافة وعلوم الإخبار ودمجه مع المركز الأفريقي لتدريب الصحافيين والاتصاليين، وإرساء منهجية تدريس الإعلام، علاوة على إحداث مجلس أعلى للتدريب يشرف على ذلك، مع وضع تصنيف دقيق لكامل المهن التي تتدخل في العملية وما يقابلها من تكوين متخصص.