قصور التشريعات يعطل سير المشاريع العمومية في تونس

لا تزال تونس تعاني من معضلة المشاريع العمومية المعطّلة، سواء تلك المجمدة منذ عهد الحكومات السابقة أو تلك التي بدأ إنجازها منذ سنوات ثم توقفت بحجج واهية، وسط تأكيد الرئيس قيس سعيد على ضرورة تذليل الصعوبات وتصدي كل أجهزة الدولة للإخلالات الإدارية، فضلا عن تطوير التشريعات المتصلة بتلك المشاريع.
تونس - يتواصل تعطيل المشاريع العمومية في تونس بسبب غياب القوانين والتشريعات المنظّمة لها، فضلا عن وجود إشكاليات لوجستية وبيروقراطية وسوء حوكمة وتصرف من قبل عدد من المسؤولين، وهو ما جعل الرئيس قيس سعيد يشدد على ضرورة تطوير الجانب التشريعي المتعلق بتلك المشاريع.
ويرى مراقبون أن هناك أسبابا عديدة تقف وراء تعطل إنجاز المشاريع العمومية من ضمنها غياب الاستقرار الحكومي في السنوات الأخيرة وانعدام الاستمرارية في الوزارات فضلا عن التجاذبات السياسية في الإدارات منذ سنة 2011، ومخاوف الموظفين من اتخاذ قرارات تجعلهم محل متابعة قضائية.
ووفق أرقام رسمية، تقدر قيمة المشاريع المعطلة في تونس منذ سنة 2016 بأكثر من 17 مليار دينار (5.45 مليار دولار)، جلها في قطاع المياه بطاقة تشغيلية قدرت بـ50 ألف موطن شغل كل سنة.
وتطرق الرئيس التونسي قيس سعيّد خلال لقائه بقصر قرطاج بفريال الورغي السبعي، وزيرة الاقتصاد والتخطيط، إلى نتائج الاجتماع الرابع للجنة العليا لتسريع إنجاز المشاريع العمومية، ومن بينها القطاع الصحي خصوصا، على غرار بناء مستشفيات جهوية جديدة وتطوير الخدمات الصحية بعدد من المستشفيات الحالية وفق بلاغ صادر عن رئاسة الجمهورية. وأكد الرئيس التونسي أن تأخير إنجاز المشاريع العمومية فضلا عن أنه غير بريء يقتضي توفير اعتمادات إضافية ستتحملها المجموعة الوطنية.
وأوضح سعيد أنه تم ضرب القطاع العمومي للصحة منذ بداية السنوات التسعين من القرن الماضي ومن تسبّب في ذلك يسعى اليوم إلى تعطيل إنجاز هذه المشاريع، ويجب على كل أجهزة الدولة أن تتصدى لهذه اللوبيات التي لا تتورّع عن الالتجاء إلى أي وسيلة كانت لإجهاض كل مشروع عمومي، مشددا على أن الدولة لن تبقى مكتوفة الأيدي ويجب أن تُطوّر التشريعات المتصلة بالمشاريع العمومية.
وليست هذه المرة الأولى التي يثير فيها الرئيس التونسي مسألة وجود عراقيل إدارية حالت دون تنفيذ العديد من المشاريع. ويؤثر تعطيل إنجاز هذه المشاريع الاستثمارية الكبرى سلبا على واقع البلاد، ما دفع بعض المستثمرين إلى تحويل استثماراتهم نحو بلدان أقل قيودا. وأفاد الخبير المالي والمصرفي محمد صالح الجنادي بأن "هناك أزمة حوكمة للمشاريع العمومية، وإشكالا متعلقا بإخلالات محاسبة من يشرفون على تلك المشاريع من الناحية التقنية والتنفيذية".
وأضاف في تصريح لـ"العرب"، "يوجد العديد من القوانين والتشريعات المتضاربة في هذا المجال، وعلى الحكومة أن تتحمل المسؤولية في إتمام تلك المشاريع بمنح صلاحيات إضافية مع مراقبة الهياكل المشرفة عليها".
وتعتبر الإشكاليات الإجرائية أهم عائق لتقدم إنجاز المشاريع، وتعود إلى ضعف التنسيق بين الأطراف المتداخلة في إنجاز المشروع سواء على المستوى الجهوي أو المركزي أو إلى بطء في اتخاذ الإجراءات اللازمة من قبل المصالح الإدارية المعنية أو نقص في المتابعة من قبل الإدارة والتنسيق بين المتدخلين العموميين.
وخلال زيارة أداها إلى مدينة غار الدماء من ولاية جندوبة (شمال)، العام الماضي، أكد قيس سعيد أن العقبات الإدارية مقصودة وليست من قبيل الصدفة، موضحا أن العديد من المشاريع مُعطلة ولم يتم الانطلاق في إنجازها رغم أن الأموال مرصودة.
واستنكر سعيّد حينها، تأخر وتعطل إنجاز مستشفى غار الدماء في جندوبة منذ 2007، واعتبر أن تغيير صبغة الأرض هدفه عدم إنجاز المشروع، كما تساءل عن سبب تغيير وزارة أملاك الدولة لصبغة الأرض التي سيُنجز عليها المشروع بعد القيام بالدراسات اللازمة. وقال الكاتب والمحلل السياسي مراد علالة "وكأننا بصدد خلع أبواب مفتوحة، فمعضلة إنجاز المشاريع العمومية تصطدم بحزمة من التعطيلات والعوائق الإدارية والتشريعية منذ سنوات".
وأكد لـ"العرب" أن "الرئيس سعيد تحدث في عدة مناسبات عن إحداث ثورة تشريعية مع حسن حوكمة تلك المشاريع، لكن هناك تلكؤا من البرلمان في سنّ قوانين جديدة تنظّم القطاع، وهناك حالة من الجمود والخشية من المبادرة، فضلا عن الشغورات والتعيينات العشوائية التي أربكت تلك المشاريع".
ولفت مراد علالة إلى "ضرورة وضع قوانين جديدة مع التخلّص من البيروقراطية المقيتة التي تعطّل المستثمرين، كما نحتاج إلى خطاب من الدولة يطمئن رجال الأعمال، والدولة أيضا مطالبة بالمبادرة بالمشاريع". وسبق أن اعتبر قيس سعيد أن التأخير الحاصل في إنجاز مشروع مستشفى الملك سلمان بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين بمدينة القيروان (وسط)، فضلا عن أنه يمس بمصداقية الدولة التونسية، حرم الكثير من المواطنين من حقهم المشروع في الصحة والعلاج.
وأكد سعيد خلال جلسة عمل، بقصر قرطاج، بحضور كل من أحمد الحشاني، رئيس الحكومة وعدد من أعضاء الحكومة، أن “التعلل بالدراسات وبالجوانب الفنية وغيرها من الأسباب الواهية ليس مبررا على الإطلاق، ولا يمكن القبول تحت أي مبرر كان باستمرار الدراسات منذ سنة 2017 إلى اليوم، فالأموال مرصودة ولكن كلما تم إنجاز دراسة إلا ووقع استبدالها بدراسة ثانية لتليها أخرى ثالثة ولا أثر في الواقع لأي إنجاز".
كما شدّد على ضرورة الإسراع في تنفيذ عدد من المشاريع ومحاسبة كل من يعمل على تعطيل إنجازها سواء داخل مؤسسات الدولة أو من جماعات الضغط التي تعتبر المرافق العمومية خطرا يتهددها أو يمسّ مصالحها. ويرى مراقبون أن غياب البرمجة الواضحة والإستراتيجيات اللازمة من الحكومات، حال دون استكمال إنجاز تلك المشاريع، فضلا عن محدودية المبادرة في ظل وجود صعوبات إدارية، وشحّ التمويل.