قصص أشبه بصيدلية تخبئ في رفوفها عقاقير الآلام

مجموعة قصصية تكشف الوجه البشع للحروب التي تدمر المدن العربية، وتؤسس فيها سحر ملص عمارات سردية أكثر حداثة وأعمق جرحا وأرحب إيحاء وتلميحا.
الثلاثاء 2018/11/13
قصص موجزة وموجعة بذورها نيران الحرب

عمّان – تكشف القاصة والروائية الأردنية السورية سحر ملص في مجموعتها القصصية الجديدة “الأرض المشتعلة”، الصادرة حديثا عن دار اليازوري في عمّان، الوجه البشع للحروب التي تدمر المدن العربية العريقة ذات التاريخ الثقافي والجمالي، مثل دمشق وبغداد وصنعاء، وغيرها من المدن التي أصبح الموت فيها حدثا يوميا عاديا. لكنها لا تخوض كثيرا في تفاصيل شخوصها، بل تركز على لقطات مفصلية في حياتهم خاصة في القصص القصيرة جدا التي تختزل أحداثها بلقطات في سطور قليلة.

تكتب ملص في القصة الأولى “مواء” عن امرأة تخرج من بيتها في يوم ممطر، فتسمع مواء داخل سيارتها، وتشرع في البحث عنه بلهفة، وبعد عناء تكتشف أن المواء يخرج من أعماق قلبها، فتجهش بالبكاء.

وتفتح القصة الباب على بانوراما ترصد وتوثق ما تفعله الحروب من قتل وتمزق وتشرد واغتيال للطفولة، فالأطفال والنساء يحتلون الحيز الأكبر في هذه المجموعة، كونهم وقود الحروب المندلعة في عالمنا العربي.

وتستحضر ملص في قصة “سباح ماهر”، قصة الطفل السوري الغريق إيلان، التي صدمت العالم، فتحدّثنا عن حلمه بالحياة، والفوز في مباراة السباحة النهائية، لكن الحرب لم تمهله لتحقيق حلمه، فخسر المباراة عندما هرب مع أفراد أسرته من الشام إلى أوروبا بأحد قوارب الموت، وغرق في البحر، وقذفت الأمواج جثته الملائكية إلى رمل الساحل التركي.

هذه المجموعة القصصية فيها استثمار لأحداث الحروب وويلاتها واقتناص مشاهد الفجائع وتصويرها بطرائق وتقنيات شتى

وتتحدث في قصة “بذار” عن فلاح خرج مع تباشير الفجر يحمل بذار القمح إلى أرضه التي بقي فيها وحيدا وسط جراح البيوت المهدمة وخرابه. وقبل أن يهاجمه المسلحون ببنادقهم المصوبة إلى رأسه “أمسك بحفنة قمح، نثرها في الأرض لعلها تنبت سنابل لأطفال قادمين بعد انطفاء شعلة الحرب”.

في تقديمه للمجموعة ذهب الناقد والشاعر راشد عيسى إلى أن ملص تواصل في “الأرض المشتعلة”، رحلتها مع القصة القصيرة، وكأن القصة صيدلية الروح التي تخبئ فوق رفوفها عقاقير الآلام بحثا عن طب إنساني بديل يجعل المعنى الذكي حبة مسكّن “ريفانين”.

 وأضاف راشد أن القاصة تقفز من سياج المبنى التقليدي للقصة القصيرة لتؤسس عمارات سردية أكثر حداثة وأعمق جرحا، وأرحب إيحاء وتلميحا، فتبني قصصا أصغر حجما، لكنها أوسع دلالة وألذ حرفية في الاقتصاد اللغوي، وهي لا تزال محافظة على بساطة اللغة المتداولة، ومقومات الحكاية المألوفة، غير أنها منهجت هذه اللغة بأسلوب المفارقة وكسر التوقع، أو ما يمكن تسميته الانتصار على خاتمة القصة، بضربة الفرشاة الأخيرة، التي تجعل المتلقي مبعثرا بالذهول والاستغراب.

إهداء إلى سوريا أرضا وشعبا، ماء وترابا ومدنا محترقة
إهداء إلى سوريا أرضا وشعبا، ماء وترابا ومدنا محترقة

ورأى راشد أن هذه المجموعة القصصية فيها استثمار لأحداث الحروب وويلاتها، واقتناص مشاهد الفجائع وتصويرها، بطرائق شتى من الإيماض النبيه الذي تنحاز معانيه إلى نصرة الإنسان والخير وقيم المحبة والجمال. والجديد المدهش فيها هو بطولة الأنوثة، فالمرأة بطلة في أكثر من ثلثي قصص المجموعة.

ووقف الناقد نضال القاسم على التقنيات السردية التي استخدمتها الكاتبة، مبينا أنها تقنيات حديثة متنوعة، تقوم على حبكات تركز على الحوادث، والشخصيات، والفضاء السردي، والتعاطي مع المؤثرات المحددة لنسقية الأفعال، والرموز الموحية بمنظورات ذاتية وموضوعية. واتسم أسلوبها بالإيجاز، والإيحاء في تصوير دينامية الحياة وموجوداتها، مع توظيف ذكي للمجاز بكل أنواعه الاستعارية والرمزية.

أما القاصة سحر ملص فقالت “لم يخطر ببالي يوما أن سوريا الجميلة بشعبها، ومدنها وبحرها وجبالها وغاباتها تشتعل. لم أفكر يوما ولا حتى للحظة أن يتشتت الشعب السوري في أرضه وهو العاشق لها، والصانع من حياته أساطير تحكي عن أرض أوغاريت وأبجديتها. كما لم يخطر ببالي ترك عرش زنوبيا في تدمر، فقد كانت القضية الأولى في حياتنا هي قضية فلسطين وتشريد شعبها واغتصاب أراضيها، وكانت لنا أحلام ممتدة من الخليج إلى المحيط، لكن ما حصل من اشتعال في أراضي الوطن العربي تحت العديد من المسميات، مثل ليبيا واليمن وسوريا ومن قبلُ العراق، أحال حياتنا إلى لهاث متعب، وعشنا قصة سوريالية نتجرع أحرفها ومفرداتها في كل لحظة، وكان ضحيتها الشعب العربي”.

وأكدت ملص أن ما شاهدته من فظائع وقعت على منكوبي الحروب في تلك المواقع من الوطن العربي دفعها إلى كتابة قصص الأرض المشتعلة، وضمنتها معاناة الناس من رجال ونساء وأطفال، فكانت قصصا موجزة وموجعة بذورها نيران الحرب هنا وهناك.

وتعبيرا عن حبها وتعلقها ببلدها سوريا، أهدت الكاتبة مجموعتها إلى “سوريا أرضا وشعبا، ماء وترابا ومدنا محترقة”، وإلى روح أخيها هاني وأمها وإلى مسقط رأسها دمشق.

15