قرارات دمج الإصدارات الصحفية تعمق خسائر الإعلام المصري ولا تقللها

تواجه الهيئة الوطنية للصحافة انتقادات واسعة على إثر قرار تحويل مجلة “نصف الدنيا” من أسبوعية إلى شهرية مع دمجها في مجلة “البيت”. وجرى تدشين حملة إلكترونية من كتاب وصحافيين ليتم التراجع عن القرار الذي حمل علامات استفهام حول آليات دمج أو إلغاء إصدارات صحفية.
القاهرة - أحدث قرار الهيئة الوطنية للصحافة في مصر بتحويل مجلة “نصف الدنيا” من إصدار أسبوعي إلى شهري ودمجها مع مجلة أخرى حالة من الغضب لدى كثير من العاملين في المؤسسات الصحافية، بسبب استسهال دمج وغلق إصدارات ورقية بدعوى تقليل الخسائر، وهدم إرث ثقافي يمكن الحفاظ عليه وتطويره إذا كانت هناك إرادة حقيقية لانتشال الإعلام الرسمي من عثراته.
وصدرت مجلة “نصف الدنيا” منذ حوالي خمسة وثلاثين عاما ضمن إصدارات مؤسسة الأهرام على يد الكاتبة سناء البيسي، والمعروفة برائدة الصحافة النسائية في مصر، وتميزت بمناقشة قضايا المرأة بشكل خاص، مع التعمق في موضوعات الأسرة والثقافة والعلوم والفنون والتراث والسياحة، وتألقت المجلة في تقديم ملفات صحافية عميقة وجريئة، ونافست العديد من المجلات العربية في طبيعة موضوعاتها.
وعلى إثر قرار تحويل المجلة من أسبوعية إلى شهرية مع دمجها مع مجلة “البيت” أخيرا، تعرضت الهيئة الوطنية للصحافة، وهي الجهة المسؤولة عن إدارة المؤسسات الصحافية، لانتقادات واسعة وجرى تدشين حملة إلكترونية من كتاب وصحافيين وناشطات ليتم التراجع عن القرار الذي حمل علامات استفهام حول آليات دمج أو إلغاء إصدارات صحافية.
ودعا نقيب الصحافيين خالد البلشي الهيئة الوطنية للصحافة لمراجعة قرار دمج مجلة “نصف الدنيا” وتحويلها من أسبوعية لشهرية، مؤكدا أن أي مبرر سيتم طرحه يحتاج إلى مراجعة لمجلة ولدت عملاقة، والحديث عن تراجع التوزيع وفقدان الهوية ليس حله الهدم أو تقليص الوجود، لكن بوضع خطة تعيد الروح لمجلة نسائية جادة.
وتواجه القيادات الصحافية الجديدة التي عينّت في مناصبها قبل أيام مشكلة في كيفية اقناع المحررين بها استئناف نشاطهم الصحفي بصورة طبيعية، حيث أصيب دولاب العمل بدرجة عالية من التكلس، تحتاج وقتا لعلاجها ما يعني أن التطوير مغلق.
واستنكر الكاتب عمر طاهر، وهو أحد أبرز صحافيي مجلة “نصف الدنيا” في عهدها الذهبي قرار الهيئة، لافتا إلى أن “الدولة تتباهى برعاية المرأة ولا تترك فرصة لتؤكد دعمها، بينما يتم القضاء على الإصدار الصحفي الوحيد الذي يمثل المرأة، وإذا كان القرار مهنيا، فالمهنة تقول إن المجلة تقدم خدمة استثنائية مقابل بقاء إصدارات صحفية لا أحد يعرف عنها شيئا، وللأسف، الدولة لا تسند ملف الصحف إلى لجنة تطوير، بل لجنة تكريم الإنسان”.
واستندت الكثير من الأصوات الصحافية الرافضة والمتحفظة على آلية التعامل مع الإصدارات الخاسرة إلى أن قرار هيئة الصحافة بدمج مجلة “نصف الدنيا” مع مجلة “البيت”، بأنه ليس منطقيا، لأن المجلتين لا تتفقان تحريريا في أي شيء، فالأولى معنية بقضايا المرأة والأسرة والمجتمع، والثانية تختص بموضوعات الديكور، كما أن “نصف الدنيا” أقدم من “البيت” في الصدور بأكثر من عشرة أعوام، والعقلانية تقتضي دمج الأخيرة في الأولى وليس العكس.
والتزمت هيئة الصحافة الصمت حيال هذا الجدل، ولم تعلن أسباب موقفها، وإن بدا في سياق محاولة تقليل خسائر المؤسسات الصحفية الحكومية، لكن المعضلة أن الهيئة تجاهلت عن بعض الإصدارات الصحفية التي لم تعد لها جماهيرية أو تحقق معدلات توزيع توفر لها الحد الأدنى من أسباب الإبقاء عليها.
ولم يكن هذا القرار الأول من نوعه، حيث سبقه منذ عامين دمج مجلتي “الكواكب” و”طبيبك الخاص” التابعتين لمؤسسة دار الهلال إلى مجلة “حواء” التابعة للمؤسسة ذاتها، كما تقرر وقف طباعة ثلاث صحف ورقية يومية، هي “المساء” التابعة لمؤسسة دار التحرير، و”الأهرام المسائي” التابعة لمؤسسة الأهرام، و”الأخبار المسائي” التابعة لمؤسسة أخبار اليوم، وتحويلهم إلى إصدارات إلكترونية.
ويعتقد متابعون لملف الإعلام الحكومي أن هناك أزمة في تطبيق قرارات دمج الإصدارات الصحفية لأنها تعمق الخسائر ولا تقللها، خاصة أن هيئة الصحافة عندما تقرر دمج إصدار مع آخر أو تحويله من أسبوعي إلى شهري، تضطر لاستمرار نفس الصحافيين والعاملين بالإصدار الذي تقول إنه خاسر من دون أن يقدموا خدمة للمؤسسة، مقابل تقاضيهم كامل مستحقاتهم المالية الشهرية دون الاستفادة منهم.
وعندما يتم دمج صحيفة مع أخرى، فالحكومة لا توفر سوى مكافأة رئيس/ رئيسة تحرير الإصدار الذي تقرر دمجه، وهي زهيدة الآن، وتبقي على الراتب الأساسي، وهي نفس الأزمة المرتبطة بالمجلات والصحف الورقية التي أصبح لها مشرف/ أو مشرفة واحدة على التحرير، مع استمرار المحررين بلا نظر في الأسباب التي قادت الصحيفة إلى الوهن وعدم القدرة على المنافسة ومن ثم انخفاض معدلات التوزيع، مقابل استسهال الدمج والإلغاء لتظل نفس المشكلة قائمة بلا حلول ناجعة.
يتفق البعض من الصحافيين على أن اتخاذ قرارات بتعيين رئيس تحرير واحد لأكثر من إصدار صحفي لا يتوافق في السياسة التحريرية يعني أن الجهة المسؤولة عن ملف الصحافة الحكومية ليس لديها الحد الأدنى من خطط التطوير، ولا تبحث عن مسارات لمواكبة العصر، بقدر ما تهدف إلى سلك طرق مريحة للخلاص من عبء المؤسسات الصحفية التي أثقلت موازنة الدولة بالديون، بدمجها أو إلغاء طباعتها.
خبراء في الإعلام يخشون أن يقود التخبط في فهم طبيعة الأزمة داخل المؤسسات الصحفية إلى مزيد من قرارات الدمج أو الغلق مستقبلا
وقال يحيى قلاش نقيب الصحافيين السابق إن استسهال دمج وطمس هوية بعض الصحف هو مؤشر خطير حول مستقبل المهنة، ويمثل خسارة فادحة للقوى الناعمة للدولة، ومهما كانت الخسائر فالحل ليس بالدمج أو الإلغاء، لكن بالبحث عن الأسباب والتعامل معها بقرارات مهنية، إذا كانت هناك نية للتطوير والتحديث والتأثير، أما ما يحدث حاليا فلا يخدم المهنة والمؤسسات الصحفية والجمهور والحكومة، وبالتالي الدولة.
وأضاف لـ”العرب” أن أزمة بعض المؤسسات الصحفية أكبر من مجرد مشكلات مادية، فهي ترتبط بوجود شبهة تعمد في إضعاف المحتوى وعدم توظيف القدرات الهائلة التي تمتلكها الكثير من الإصدارات، الورقية والإلكترونية، وتجاهل استثمار الكوادر والكفاءات، وكلما حدث دمج للإصدار تخسر الدولة منبرا كان يمكن أن يمثل داعما لها، ما يقود إلى تعريض المهنة لأزمات عدة تزداد خطورة مع مرور الوقت.
وتوجد شريحة من الصحافيين في مصر على قناعة بأن هناك شبهة تعمد لما يحدث داخل بعض المؤسسات الصحفية الحكومية، بحيث يستمر الإعلام الرسمي على الحالة الراهنة الجامدة ليصبح حجة أمام الهيئات المعنية بإدارة المشهد للتوسع في دمج إصدارات وإلغاء أخرى، بذريعة أنها تخسر ماديا وتتناقص شعبيتها، والأفضل خروجها من المنظومة أو تقليص دورها بتقليل خسائرها ووقف الدعم المقدم لها.
ما يثير استنكار كثير من شيوخ مهنة الصحافة في مصر أن المؤسسات الصحفية لديها قوائم طويلة من الكفاءات التي تستطيع أن تنقل المنابر التي تراجع دورها إلى المكانة التي تستحقها، لكن يتم تنحيتهم جانبا وعدم استغلال طاقاتهم وأفكارهم واختيار عناصر بعينها بحجة أنهاأكثر ولاء للحكومة، مع أن النظام الحاكم لم يستفد سياسيا من هؤلاء، وربما خسر منابر كانت وسيطا مهنيا مؤثرا.
يخشى خبراء في الإعلام أن يقود التخبط في فهم طبيعة الأزمة داخل المؤسسات الصحفية إلى مزيد من قرارات الدمج أو الغلق مستقبلا، طالما لا تتدخل الحكومة وتنتقي كوادر تدير المنظومة بكفاءة وتُدرك قيمة استمرار الصحف التي ترتبط بالشارع بدلا من اختزال الأزمة في الشق الاقتصادي فقط، لأن التعاطي مع المشكلة بمنطق الربح والخسارة له انعكاسات قاتمة على الإعلام المصري برمته.