قد يكون الجديد هو المستقبل

المكرر في الإبداع هو قرين الماضي أما الجديد فيعبر عن الحاضر ومتغيراته ويبشر في الوقت ذاته بالمستقبل.
السبت 2020/03/07
نجيب محفوظ كاتب ملهم لم يكرر نفسه أبداً

مازال كثيرون من العاملين في مجالات الفكر والفنون، يعدون الجديد، أي جديد، نقيضا لما هو قديم فيها. والقديم في المجالات التي ذكرناها لا يمثل الماضي كله، بل هو نتاج مرحلة تاريخية محددة، ومن المعروف والمتفق عليه، أن كل ما نعده قديما في مرحلة ما، كان جديدا في مرحلة غير المرحلة التي رأيناه فيها قديما.

إن الجديد هو تطور القديم، وهذه الفكرة عبّر عنها د. فؤاد زكريا بالقول “إن الذين نعدهم في عصرنا هذا، كلاسيكيين، كان بعضهم قد عُدَّ غير مفهوم في عصره، فقد اتهم بتهوفن بالغموض والتعقيد، ولقي فاغنر الكثير من السخرية” ومن هنا يمكننا أن ننظر إلى الكلاسيكية من خلال المتغيرات، وليس من خلال ما يوحي به المصطلح، أي أنها مرحلة تاريخية استوت وانتهت، ونظرتنا إليها من خلال المتغيرات، تعني تكرارها، فكل جديد، فكري وجمالي، على الصعيدين العام والشخصي يمر بمرحلة التأسيس وإرساء ثوابت وترسيخ معالم، وكل هذا ينتهي إلى أسلوب محدد، فيحقق كلاسيكيته، غير أنها في جميع الحالات يتم تجاوزها بما هو جديد أيضا.

وعلينا أن نعترف بأن الأسلوب يفرض وجوده ليس على المبدع وحده، بل يتجاوزه إلى المتلقي، وقد يؤسس ذائقة عامة، مؤثرة إلى حد يصعب تجاوزها، وقد يعد أي تجاوز لها من قبيل التجديف، ويصل أحيانا إلى الاتهام بالتفريط بالثوابت القومية، وهكذا يفهم قول بابلو بيكاسو “إن ألد عدو للفنان هو الأسلوب” فهو لا يقصد اقتران العمل الفني بأسلوب ما، وهذا الاقتران لا جدال حوله، فليس من عمل فني أو أدبي إلا وتميز بأسلوبه، كما يعرف كل مبدع بأسلوبه، ولكنه يقصد الثبات على أسلوب واحد، فمثل هذا الثبات يجعل من العمل الفني مكررا ومألوفا، ولا يحقق دهشة الإبداع.

ومما يبعد الأعمال الإبداعية عن فضاء الإبداع، بقاء المبدع عند ما هو مألوف، وما ينتظره منه المتلقي المستسلم لما يعرف وما يألف، وهذا الاستسلام للمعروف والمألوف من أكثر العوامل خطرا على حيوية الإبداع، حيث الفرق كبير والمساحة شاسعة جدا بين الاستجابة لمتطلبات الإبداع والاستجابة لتوجهات المحيط المتلقي.

ومهما كانت مصادر المبدع متنوعة ومهمة ومؤثرة ينبغي ألا يكرر ما فيها وإنما يتمثلها ومن ثم يأتي بما هو جديد وما يشكل إضافة إلى تلك المصادر، وتأتي الأهمية من المختلف، ولنراجع جميع الذين لفتوا إليهم الأنظار، في التلقي أو في القراءات النقدية، سنجد أن ما اختلفوا فيه عمن سبقهم وما أضافوا إلى المحيط الإبداعي الذي نشأوا فيه، هو العامل الأهم في لفت الأنظار إليهم، وليس لأنهم كانوا نظراء من سبقهم أو من عاصروهم.

وقد عبَّر أندريه جيد عن هذا العامل بقوله “متى قلت إني أريدك نظيري؟ لأنك تختلف عني، أحبك، ولا أحب منك إلا ما يختلف عني”.

إن النظير هو المكرر، والمكرر ليس هو الصوت الحقيقي، بل هو في أحسن حالاته ليس سوى صدى، فمنذ أن عرف الشعر العربي صوت المتنبي، تتوالى الأجيال وهناك من يحاول أن يستعير صوته الشعري، فما كان إلا صدى، وكذلك كان صوت شكسبير في الشعر الإنجليزي، والأمثلة كثيرة سواء في الإبداع العربي أو في الإبداع العالمي، وفي عصرنا هذا أو في ما مضى من عصور.

يقول الناقد سعيد يقطين في معرض تناوله تجربة  نجيب محفوظ الروائية “لا أجد من يجادل في قيمة نجيب محفوظ الأدبية والفنية فهو غزير الإنتاج، واكب صيرورة الرواية العربية وساهم بقسط وآخر في مختلف تجاربها، وأسس تقاليد الرواية العربية في الخمسينات والستينات، حتى صار كل من يريد التجاوز، يجد نفسه أمام ضرورة هدم التقليد الذي أسس، إنه بمعنى آخر، اكتسب من خلال تجربته السردية ما يضفي على أعماله البعد – الكلاسيكي – بالمعنى الذي نجده في التصور الغربي، والذي لم يتحقق إلا للكتاب الكبار الذين يظلون معلمة في الفن الذي اشتغلوا به” ومعنى الكلاسيكية في ما ذهب إليه سعيد يقطين، كما أشرت إلى ذلك من قبل، هو مرحلة التأسيس وإرساء الثوابت وترسيخ المعالم.

إن الذي ميَّز نجيب محفوظ ليس ريادته الزمنية ولا ثراء إنتاجه السردي ولا تواصل هذا الإنتاج، فحسب، بل هو جديده المستمر، فقد ظل يجانب حالة الأسلوب الواحد والموضوع الواحد أيضا،  وقد سبق لي أن كتبت عن تواصل تحولاته وما يستجد في أساليب كتاباته السردية، حيث شكل في ما كتب وخلال زمن كتابته، تاريخا للرواية العربية، شكلها في ثقافات أخرى، عدد كبير من الروائيين وعلى امتداد عدد من القرون.

لذا فقد ظل نجيب محفوظ جديدا باستمرار، وكان هذا الجديد في كل مرحلة من مراحل تحولاته، وفي كل تجربة جديدة في مسار تجربته الزمنية، وظل حاضرا في القراءة والنقد والتأثير، بل مازال حاضرا وأستطيع القول، وسيبقى، وطالما وجدت في تحولاته الأسلوبية ما يذكرني بتحولات العملاق التشكيلي بابلو بيكاسو، الذي يقول: الأسلوب، هو ألد عدو للفنان، ويقصد ثبات الأسلوب.

أو كما قال ريلكة: السعادة، لا نعيشها إلا بالتحول.

إن المكرر في الإبداع هو قرين الماضي الذي يكون في قطيعة مع الحاضر والمستقبل، أما الجديد فهو بقدر ما يعبر عن الحاضر ومتغيراته، يبشر في الوقت ذاته بالمستقبل، ويفتح النوافذ على الآتي في تواصل حيوي، بعيدا عن قطيعة مفتعلة أو تبعية جامدة مضللة، حتى ليمكننا القول، إنه هو المستقبل.

14