قانون الأسرة لمسيحيي مصر بلا نصوص تستفز المتشددين

لم يتضمن مشروع القانون الجديد الذي ينظم الأحوال الشخصية للمسيحيين في مصر بندا يتعلق بالتبني، في حين ركز على حسم قضايا مثل الخطبة والزواج والطلاق والميراث والمساواة بين الجنسين. وتعكس هذه الخطوة مخاوف الحكومة من ردة فعل المتشددين دينيا، ما جعلها تغلق باب الاحتجاج أمامهم ضمانا لعدم تجميد مشروع القانون.
القاهرة - أظهرت جلسات للحوار المجتمعي تُجريها الحكومة المصرية مع ممثلي الكنائس حول مشروع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين، أن النظام حسم أمره من تجنب تفجير قنبلة موقوتة داخل المجتمع، بعدم التطرق من قريب أو بعيد إلى قضية التبني بالنسبة للأقباط، لتفويت الفرصة على بعض شيوخ مؤسسة الأزهر والتيارات الإسلامية المتطرفة لاستغلال القانون كذريعة لإرباك أجهزة الدولة.
وأعلنت الكنيسة الإنجلية على لسان مستشارها القانوني نجيب جبرائيل، والذي شارك في جلسات الحوار المجتمعي حول التشريع الجديد للأسرة المسيحية، أن القانون لم يتطرق إلى قضية التبني، وركز على حسم قضايا مثل الخطبة والزواج والطلاق والحقوق والواجبات والميراث والمساواة بين الجنسين، ما يعني أن الحكومة قررت إلغاء ما يتعلق بالتبني من قانون الأحوال الشخصية، والخاص بالمسيحيين.
وعقدت وزارة العدل جلستين حواريتين حول مشروع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين، لاستيعاب مختلف الآراء، بمشاركة جميع الطوائف المسيحية وممثلي الكنائس للوصول إلى رؤية قانونية يتم التوافق عليها حتى يخرج مشروع القانون بصورة توافقية لجميع الطوائف من دون أن يتم التطرق إلى مسألة التبني لأنها ليست موجودة في مشروع القانون الجديد.
وبينما أكد عضو لجنة إعداد القانون نجيب جبرائيل أنه تمت إزالة بند التبني، لم يعلق أيّ من القادة الكنسيين، لكن الخطوة عكست مخاوف الحكومة من ردة فعل متشددين دينيا، دون اكتراث بأن المسيحيين يحق لهم التبني لأن ديانتهم لا تحرّم ذلك، وهي إشكالية لا ترغب الكنيسة في إثارتها لعدم إثارة منغصات تقود إلى تجميد القانون.
يعد مشروع القانون الذي ينظم الأحوال الشخصية للمسيحيين، الثالث من نوعه في مصر، حيث سبق وأعدت الحكومة عام 1978 مشروعا خاصا بهم ولم يتم إقراره، وتكرر الأمر في تسعينات القرن الماضي وتم تجميده أيضا بعد إدخال تعديلات خاصة بالتبني باعتباره مخالفا للشريعة الإسلامية التي تعتبر الديانة الرئيسية في الدولة المصرية، وفقا لنصوص الدستور.
تعتقد دوائر سياسية أن توافق الحكومة والكنائس على مناقشة مشروع قانون الأسرة المسيحية دون مواد مفخخة، هو محاولة أخيرة ليكون للأقباط تشريع ينظم علاقاتهم الاجتماعية بعيدا عن الشريعة الإسلامية أو تدخلات الأزهر ووصاية التيارات المتشددة، واقتنع مسيحيون به وفضّلوا عدم النبش في نصوص تثير غضب المتطرفين.
ومنحت الحكومة مزايا جديدة للأقباط لم تكن موجودة من قبل بتوافق كنسي حولها، نظير عدم التمسك بقضية التبني، كأن تتم المساواة في الميراث بين الذكور والإناث، وتوسيع قاعدة الطلاق بإضافة أسباب جديدة تبيح الانفصال، وهو الطلب الأهم بالنسبة لمسيحيين كانوا محصورين في سبب أو اثنين، مثل علّة الزنا وتغيير الملّة للحصول على إذن بالطلاق.
يتمسك الأزهر برفض التبني تحت أي مبرر، ويعتبره خطرا على السلم المجتمعي بدعوى أنه يخلط بين الأنساب، والحكومة لا ترغب في فتح جبهات من الاحتقان الداخلي لن تستطيع غلقها في ملف مرتبط بالدين، أمام تشعب التحديات الاقتصادية والاجتماعية والتهديدات الإقليمية المرتبطة بتداعيات الحرب على قطاع غزة، وتجاهد لتثبيت التماسك المجتمعي.
ويعتقد مراقبون أن تجاوز الكنائس المصرية عن حقهم في إقرار التبني يعكس عدم رغبتهم في الوصول إلى حلقة من حلقات الصدام مع بعض علماء الأزهر، أو ضياع المكتسبات التي حصل عليها المسيحيون في التشريع المرتقبة مناقشته داخل البرلمان قريبا، باعتبار أن الدولة لن يكون بوسعها الدخول في عداء مع الأغلبية المجتمعية المسلمة المتدينة بالفطرة التي يجيد المتشددون تأجيجها ضد أي قانون ديني.
تعوّل الحكومة على متانة العلاقة بين الأزهر والكنيسة في مصر من دون أن تكون هناك انقسامات مجتمعية على أساس طائفي تستثمره تيارات دينية متشددة ترى أن أي مزايا يتحصل عليها الأقباط في قانون يخصهم، قد يمثل اعتداء على الإسلام، لذلك ارتأت أنه من الحكمة والعقلانية استمرار مناقشة مشروع الأحوال المسيحية للمسيحيين بنصوص لا تقترب من الشريعة الأم.
وتبدو الطوائف المسيحية المختلفة مقتنعة بأن ما تحصلت عليه في التشريع الجديد يحررها بشكل معقول من أوراق الضغط التي كانت تمارس على الكنائس، لكن يظل التحدي الحقيقي أمام القادة الكنسيّين في مصر أن يقنعوا أتباع كل طائفة بأنهم تحصلوا على مكتسبات تاريخية بأن أصبحوا مستقلين عن الشريعة الإسلامية في الكثير من القضايا التي تخص عقيدتهم.
وتشير الكثير من الشواهد إلى أن الأزهر لديه القدرة على حشد أصوات مجتمعية كبيرة للوقوف في وجه أي قانون يلامس الشريعة بشكل يضع الحكومة في ورطة سياسية ويجبرها على التراجع خطوات إلى الوراء، وربما تجميد التشريع نفسه، وهو ما حدث في أزمة الطلاق الشفهي الذي كان الرئيس عبدالفتاح السيسي يتمسك بإلغائه، وانتصر الأزهر لوجهة نظره الرافضة.
ولدى الأزهر واقعة تاريخية حول رفض مشروع قانون خاص بالأحوال الشخصية للمسيحيين في عهد البابا شنودة، بابا الكنيسة الراحل، عندما استعان بأصوات دينية وإعلامية تبنت حشد الرأي العام في وجه القانون، وجرى تجميده بعد تصعيد ديني ضده، وحينها قال شنودة إن الكنيسة لا ترغب في الصدام مع المسلمين ورموزهم بسبب التبني والمساواة في الميراث.
ورأى الباحث في شؤون العلاقات الاجتماعية عادل بركات أن هناك رهبة دينية زرعها السلفيون في المجتمع حول التبني، لكن تظل المشكلة الحقيقية في إمكانية حدوث استقطاب مجتمعي حاد حول أي قضية تلامس الدين، وهذا يتعارض مع المدنية بمفهومها الشامل ويعطل تطبيق المواطنة، وتفويت الفرصة على دعاة التشدد كان مطلوبا في هذا الظرف الدقيق.
◙ هناك رهبة دينية زرعها السلفيون في المجتمع حول التبني لكن تظل المشكلة الحقيقية في إمكانية حدوث استقطاب مجتمعي حاد حول أي قضية تلامس الدين
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن حسم إشكالية التبني يبدأ من التعاطي معها بإنسانية دون مناقشتها على أساس ديني، والوصول إلى مرحلة متقدمة من التسامح في العلاقات الاجتماعية يستدعي احتكام كل شريعة لشؤون دينها، وهذا ما تجب تنشئة الصغار والمراهقين عليه ويحتاج إلى إستراتيجية تعيد تشكيل الوعي العام حول أبجديات الحقوق المجتمعية لكل عقيدة.
وفسر صمت قادة الأزهر ورموز جهة الفتوى في مصر ضد مشروع قانون المسيحيين الذي أباح المساواة في الميراث، بأنه مقابل عدم تطرق القانون إلى التبني، لكن التساوي في الإرث يتناغم ضمنيا مع المادة الثالثة في الدستور بأن مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشؤونهم الدينية المختلفة.
ولا تزال علاقة السلطة والأزهر تشوبها بعض المنغصات، رغم الظاهر عكس ذلك، فالكثير من الدوائر الرسمية ترغب في تنفيذ وعود الرئيس عبدالفتاح السيسي للأقباط بأن يكون لهم قانون خاص بهم، لكن دون أن تفتح بابا للاستقطاب الديني والسياسي يصعب غلقه في توقيت بالغ الحساسية، خاصة إذا كان الخلاف على أساس فقهي.
ويفسر ذلك، سعي الحكومة إلى تقديم تنازلات ترضي الكنيسة بلا مضايقات ومنغصات، أو الدخول في معركة أكثر شراسة مع السلفيين الذين يسيطرون على الأرض أكثر من المؤسسة الدينية الرسمية، والأكثر خطورة أنهم ينظرون بريبة وتشكك إلى أيّ ميزة في الأحوال الشخصية يمكن أن تُمنح للأقباط، مقابل تعرضهم لهزائم سياسية ودينية وإقصائهم من المشهد الدعوي كليا.
ونجح السلفيون في شحن شريحة مجتمعية ضد كل ما يرتبط بالتبني، بحجة أن إقراره سوف يكون مدخلا لنشر المسيحية من خلال استمالة أطفال الشوارع ودور الأيتام ومجهولي النسب، وهؤلاء أعدادهم كبيرة وغير معروفة دياناتهم، وهم الشريحة التي يخشى إسلاميون من حصولها على الديانة المسيحية، بذريعة إدماجها داخل الأسرة.
وبقطع النظر عن أسباب قبول الكنيسة بحذف التبني من مشروع الأسرة المسيحية، تظل الحقيقة الواضحة مرتبطة باستمرار ارتباك الحكومة في مصر عند مناقشة أي تشريع مرتبط بالدين، الإسلامي أو المسيحي، ما يُصعب تكريس مدنية الدولة، أو الجمهورية الجديدة، لمجرد الخوف من مواجهة تيارات دينية لديها إصرار على إعلاء ولاية الفقيه على قوة القانون.