قاعدة "الولد للفراش" تفاقم معاناة الأمهات العازبات في الدول العربية

يجمع الفقهاء على أن مولود العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج طفل زنا، لذلك تنتهي غالبية قضايا إثبات النسب في الكثير من المجتمعات العربية بنسب الطفل إلى أمه وإلغاء علاقة الأب بالمولود، باعتبار أن النسب الأبوي يكون ساريا بناء على عقد شرعي. وأمام هذه الوضعية تكون الأم وطفلها عرضة للتنمر والسخرية والاستهداف المعنوي، وربما الجسدي.
القاهرة - أظهرت الوقائع المرتبطة بنسب أبناء العلاقة غير الشرعية أو الناتجة عن زواج عرفي غير موثق للأم فقط حجم المعاناة التي تتعرض لها سيدات في دول عربية مختلفة، لمجرد دخولهن في علاقة مرفوضة مجتمعيا فيتم معاقبتهن بأن يتحملن وحدهن مسؤولية أولادهن بنسبهم إليهن.
أثيرت قضية نسب الأبناء إلى الأم في عدد من الدول العربية مؤخرا، نتيجة تمسك رجال الدين بنسب مواليد العلاقة غير الشرعية إلى الأم وتغييب علاقة الأبناء بآبائهم ولو على مستوى نسبهم إلى الأب، ما أعاد فتح قضية الطفل المولود خارج إطار الزواج الشرعي وحرمانه من والده.
تبرر مؤسسات قضائية ودينية في دول عربية نسب الطفل إلى الأم بأنه لا يوجد عقد زواج رسمي أو موثق، ولو كان عرفيا، ويتم تطبيق القاعدة الفقهية التي تقول إن “الولد للفراش”، أي يُنتسب إلى أمه طالما نتج عن علاقة “محرمة”، ما يضاعف أزمة النساء.
التعامل مع قضية نسب الأبناء إلى الأم من منظور ديني فقط يحمل حكما بالسجن الأبدي على هذه الشريحة من النساء
تنتهي غالبية قضايا إثبات النسب في الكثير من المجتمعات العربية بتبرئة الأب، وإلغاء علاقته بالمولود بدعوى أن الطفل نتج عن علاقة خارج إطار الزواج الرسمي، والنسب الأبوي يكون ساريا بناء على عقد شرعي، وهي أحكام يتم الاستناد فيها إلى رؤى فقهية.
قبل أسابيع، صدر حكم قضائي في مصر بأن نُسبت طفلة إلى أمها، على الرغم من أن الفتاة كانت أقامت دعوى قضائية تفيد خلالها بأنها تعرضت للاغتصاب، لكن محامي الشاب نجح في إقناع المحكمة بأن العلاقة تمت بين الطرفين بالتراضي، مطالبا بنسب الابنة إلى أمها فقط.
كشفت الواقعة عن ظلم فادح يقع على الفتيات اللاتي يفشلن في إثبات ما إذا كانت العلاقة الجنسية معهن تمت بطريقة الاغتصاب أو برضائهن، فهي تعجز عن الاستعانة بشهود، كما أن العلاقة وإن حدثت بالتراضي كأحد أشكال الزواج السري، فالمفترض تسمية الابن للأب.
هناك شبه إجماع ديني على أن “مولود العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج يعامل على أنه طفل زنا، ولزاما يثبت نسبه إلى أمه، لأن الأمومة علاقة طبيعية، بخلاف الأبوة فهي علاقة شرعية، بالتالي لا يحق إثبات أبوة الزاني لمن تخلق من ماء زناه”.
يرى رافضون لهذا الموقف أنه يؤسس لعلاقة أسرية بين الأم وابنها قائمة على القهر والإذلال وصعوبة مواجهة المجتمع، ومثل هذه الأنساب تجعل المرأة وابنها طوال الوقت عرضة للتنمر والسخرية والاستهداف المعنوي، وربما الجسدي.
ترفض بعض الحكومات العربية أن تتدخل بتعديلات تشريعية عصرية تنصف السيدات اللاتي ينجبن خارج إطار الزواج الشرعي، بحجة أنها إذا فعلت ذلك قد تتعرض لمواجهة حادة مع بعض الأسر، وتظهر بصورة تشجيع الشباب والفتيات على العلاقات المحرمة.
ويعتقد حقوقيون أن الاستناد إلى الرؤى الدينية في مسألة نسب أبناء العلاقات غير المشروعة يتعارض مع مبادئ الإنسانية وحقوق الطفل في أن يعيش أبناء هذه العلاقات حياة سوية خالية من المنغصات، لأنهم سيدفعون ثمن خطيئة لا ذنب لهم فيها.
ويشير هؤلاء الحقوقيون إلى أن التعامل مع قضية نسب الأبناء للأم من منظور ديني فقط قد يحمل حكما بالسجن الأبدي على هذه الشريحة من النساء وأولادهن، ويكفي فتاوى المتطرفين التي تصدر بحقهم والتحريض ضد الأم بعدم الزواج منها أو ابنها الذي يوصم باللقيط.
أصبحت الكثير من الفتيات اللاتي ينجبن خارج إطار الزواج الرسمي يتعمدن إلقاء أطفالهن في الشارع أو أمام المساجد ومؤسسات للرعاية الاجتماعية لإدراكهن أنهن لو لجأن إلى القضاء لإثبات النسب لن يحصلن على حقوقهن، لذلك يفضلن التخلي عن الأطفال ليتم وضعهم في دور رعاية تربيهم.
يترتب على ذلك أن يعيش الطفل (في مصر) داخل مؤسسة اجتماعية حتى يصل إلى سن البلوغ وهو ثمانية عشر عاما، رغم أن أبيه وأمه معروفان، لكن الأخيرة أدركت خطورة أن يُنتسب الطفل إليها، ما يعرضها للاستهداف والتنمر وربما القتل من جانب أسرتها لأن القضاء يحكم بناء على رؤى فقهية قديمة.
تعجّ مؤسسات الرعاية في مصر بأطفال مجهولي النسب، ويعيشون حياة بالغة القسوة على المستوى النفسي والتعليمي ويصعب عليهم الزواج مستقبلا، إلا من فتيات تربين ونشأن داخل مؤسسة اجتماعية بحيث لا يلجأ أي منهما إلى معايرة الآخر بحكم أن ظروفهما متشابهة في كل شيء.
وصار من السهل اكتشاف النظرة السلبية لأبناء العلاقات غير الشرعية في بعض المجتمعات، إذ صدرت فتاوى في العراق لا تجيز الزواج من الأم التي ينتسب لها أولادها، وأشار متشددون في اليمن إلى أن المرأة لا تدخل الجنة، وفي الجزائر لا يتطرق قانون الأسرة إلى إثبات نسب اللقطاء.
ما يثير استنكار المؤسسات الحقوقية أن جهات القضاء ورجال الدين في بعض المجتمعات العربية عندما ينسبون الطفل إلى أمه لمجرد أنها أخطأت في علاقة غير شرعية لا يتطرقون إلى حقوق هؤلاء الصغار التعليمية والمادية والأسرية للتهوين على الأمهات وعدم دفعهن إلى التخلص منهم مبكرا.
مؤسسات الرعاية في مصر تعجّ بأطفال مجهولي النسب، ويعيشون حياة بالغة القسوة على المستوى النفسي والتعليمي ويصعب عليهم الزواج مستقبلا
قالت عبير سليمان، الباحثة المصرية في قضايا الأسرة وحقوق المرأة، إنه لم تعد هناك رفاهية من الوقت لتعديل التشريعات الأسرية العربية التي تكرس ظلم وقهر المرأة التي تنجب خارج إطار الزواج، لأن الدين لم يحرض على وصم الأبناء ولا قهر النساء طوال حياتهم لمجرد مخالفة الشريعة.
وأضافت لـ”العرب” أن استمرار نسب الأطفال إلى أمهاتهم وتبرئة الرجال مع أنهم شاركوا في العلاقة غير الشرعية يعني أن هناك بلدانا عربية تربي ذئابا بشرية ستكبر وتنتقم من المجتمع الذي ظلمهم وعاقبهم على ذنب لم يرتكبوه، ثم لماذا يبرأ الرجل من نسب الأطفال إليه وهو شريك في الخطأ؟
ولفتت إلى أن معاقبة الأم بنسب الابن إليها، ولو شاركت في علاقة خاطئة بإرادتها، يعكس ظلما أسريا على المرأة، فلا يتم بحث كيفية تربية الطفل وتعليمه والإنفاق عليه، وكلها أمور تلامس الدين والأعراف والتقاليد، لكن للأسف لا نزال نعيش فقها جاهليا.
تتفق الكثير من المنظمات النسوية والحقوقية على أنه يصعب حل أزمة أطفال العلاقات غير المشروعة بعيدا عن التعامل معها بشكل إنساني، ولو كانت الرؤى الفقهية صحيحة، وأحكام القضاء محصنة، فليس منطقيا أن يعيش الابن بلا أب وهو يعرفه.
ترى بعض الأصوات المعتدلة أن استناد رأي الدين في مسألة نسب أطفال العلاقات المحرمة إلى أمهاتهم على تراث فقهي لا يقبل إعادة عصرنته أو تحديثه خطأ، لأن زيادة أعداد هؤلاء الأطفال يفرض على الحكومة نفسها إعادة البحث عن حلول إنسانية، شريطة وجود إرادة قوية.