"في صحتكم".. صراحة سوداوية في معرض للفنان العراقي هشام طاهر

حمّل الفنان العراقي هشام طاهر الكرسي رمزية كبيرة، باعتبار أن قطعة الأثاث تلك تحمل رمزية في المجتمعات العربية ومنها المجتمع العراقي، فالكرسي رمز للفساد والمنظومة الحاكمة التي يصعب التخلي فيها عن الكراسي ومميزاتها، وليتحول الكرسي إلى بطل أعمال تشكيلية تسخر من الواقع والصمت الرهيب الذي تلتزم به الشعوب في وجوه حكامها.
تقدم صالة “عايدة شرفان” بالتعاون مع مؤسسة “كريستيان أشقر للفنون” معرضا للفنان التشكيلي العراقي هشام طاهر تحت عنوان “في صحّتكم”. ويستمرّ المعرض حتى الثلاثين من شهر مارس الحالي. وعنون الفنان العراقي هشام طاهر معرضه في صالة “عايدة شرفان” في بيروت بـ”في صحتكم” ليدخل زائري معرضه من باب السخرية السوداء إلى عالم لا يستحق الاحتفاء به ولا المشاركة في أيّامه المفرحة.
ويجيء هذا العنوان ليكرّس المعنى المعاصر للتشاؤم على اعتبار أنه توصيف للواقع وليس وجهة نظر. فما يصوّره الفنان لا يتحمّل وجهات نظر مختلفة، فما يحدث في وطنه العراق وفي الوطن العربي على السّواء متشابك الأقدار والأسباب وتلفحه ريح مأساوية يُسمع لها صوت حينا ولا يُسمع حينا آخر. أما هذه “الأصوات” في لوحات الفنان فهي مسموعة “بصريا” وهي كصوت الخشب لحظة انهياره تحت قوة الضغط، وسنعود إلى ذلك لاحقا في سياق المقال.
هذا التشاؤم في لوحات الفنان العراقي لم يصوّره الفنان بشكل مباشر ولم يرد أن يكون أو أن يصبح انعكاسا لما يشعر به، بل أراده أن يكون هادئا وساخرا وذا طابع موضوعي، إذا صحّ التعبير.
فقد أشار في سياق الكلام عن معرضه هذا “لست بصدد بث التشاؤم والطاقة السلبية لدى المتلقّي، لا أريد ذلك أبدا، لكن هذا ما هو موجود صدقا في داخلي حاليا، وأحاول جاهدا أن أكون متفائلا، لكن الصورة التي أمام عينيّ، ولمسافة بعيدة، هي سوداء. نعم سوداء. الأمل موجود في داخلي، ولا بد من أن يأتي يوم ينتفي فيه دور هذا الكرسي، وتملأ الراحة عالمي الخاص، وتعيش الشعوب حياة كريمة تستحقها”.
عن أيّ كرسي يتحدث الفنان؟ حتما عن هذه المفردة البصرية التي استحالت في نصه إلى رمز يحمل معاني وإشارات كثيرة.
ويحضر الجواب الأوليّ عن ماهية هذا الكرسي وما الذي يشكله بالنسبة إلى الفنان في البيان الصحفي المرافق للمعرض “يفصح المعرض عن الواقع المؤلم، والتلاشي المخيف، والصمت الذي يلف شعبا اختُزلت حضارته وثقافته، وتم تحويله إلى قطيع يُساق كيفما أراد أصحاب القرار.. الكرسي له سحر وإغراء كبيران، وقد يتصارع عليه الناس، خصوصا حين يدور الحديث عن كرسيّ السلطة، وهو الكرسي الذي يعطي لصاحبه حق اغتصاب حقوق الناس وانتهاك ما يشكل خصوصيتهم”.
أما الفنان فيذكر في البيان الصحفي أنه قام بتصوير الكرسي “في معارض مشتركة وذلك كقضية يطرح ذاته للتساؤل من قبل المتلقي. وهذه التساؤلات هي لمن سأكون أنا (الكرسي) ومن سوف يجلس عليّ؟ وهل الشّخص الجالس سوف يعطيني هيبتي أم سيلحق بي اللعنة إلى ما لا نهاية؟ هو صراع منذ الأزل. صراع الخير ضد الشر. صراع المظلوم ضد الظالم. المعرض جاء ليجسد الكمّ الكبير من الاستهتار والاستهزاء بقيم الإنسان البسيط ليعيش فقط دون أيّ هدف ودون أمل. حيث أصبح الكرسي هو الإله الذي يسعى ويصبو إليه كل إنسان”.
هذا بالنسبة إلى موضوع اللوحات ومضمونها الفكري والنقدي. أما بالنسبة إلى تجسيد أفكار الفنان بصريا فيمكن القول إن هشام طاهر هو من الفنانين الذين استطاعوا أن يجسّدوا في أعمالهم كيف يكون الفن تشكيليا أو تجريديا، ولكنه ينحو بشكل كبير إلى الفن المفهومي فيجمع جمالية البصري وعمق الموضوع المطروح وتشعباته.
الناظر إلى اللوحات سيتقمص، إذا صح التعبير وجهة نظرة الفنان إلى الكرسي/الكراسي: إنها نظرة طائر على علوّ منخفض تستوقف جناحيه مشاهد لكراس شتى وهي في لحظة انهيارها تحت قوة ضغط ما. كراس تصبح صناديق. تصبح علب كبريت. تصبح مقاعد في صف مدرسيّ. تصبح أوراق لعب. تصبح قبورا. تصبح هياكل عظمية متحطمة. تصبح أحجية وتمائم لتستفز عين المُشاهد وفكره.
◙ الفنان برع في التعبير بصريا في لوحاته عن الهاجس الذي رافقه في أفكاره لتتنوع مشاهد الكراسي في هيئاتها المتكسرة
في لوحاته الكثير من الغنائية حيث استطاع الفنان أن يجمّل الانهيار وإن كانت تلك الكراسي هي لأصحاب السلطة المجرمين. ففي انهيارها جمالية شعرية وبالتالي تفاؤل يزيح غيوم التشاؤم الذي تحدث عنه الفنان في سياق كلامه عن معرضه كما تبدد أجنحة الطيور وطأة الغيوم الداكنة. وعلى الرغم من الغنى اللوني الكبير الذي ظهرت فيه الأعمال يبدو أنها حتى وهي في عزّ الزرقة، حمراء متفجرة. وهنا بلاغة تشكيلية/تعبيرية لا يمكن إغفالها.
وهنا تجدر الإشارة إلى ما قاله الفنان حول تلك الأعمال شديدة التنوع والتي لم تزح عن الموضوع المُعالج، بل أوغلت في التعمق بأحواله وأثاره فـ”المعرض نتيجة بحث ودراسة وتفكير استمر لسنوات، حيث كانت مفردة الكرسي عقدة في داخلي لا ترضى أن تزول أو تبتعد.. لا أريد التوغل والإسهاب أكثر في الكلام والذهاب إلى أزقة طفولتي التي كانت ملازمة للحروب والاضطهاد والحصار في كل شيء”.
لم يرد الفنان العراقي الإفراط في الكلام عن هذا الهاجس الذي رافقه طويلا ليبرع في التعبير عنه بصريا في لوحاته لتتنوع مشاهد الكراسي في هيئاتها المتكسرة: حطام منفصل عن بعضه بعضا حينا ومتصلا حينا آخر بما يشبه شوارع مدينة وجسور دقيقة تارة وعريضة تارة أخرى. عناصر بصرية تتكرر دون أن تتشابه إلا في انهيارها. وتبدو المساحات الملونة والقصيرة التي تحيط بها وكأنها دماء تلك الكراسي تارة ودماء من وقع تحت سلطتها تارة أخرى.
يُذكر أن الفنان هشام طاهر من مواليد العراق العام 1978. وهو حاصل على دبلوم في الفنون البصرية من معهد الفنون الجميلة في بغداد العام 2007، ودرجة الماستر في الفنون من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية في بيروت العام 2022. له مشاركات عديدة في معارض جماعية في سوريا والأردن وتركيا. حاصل على جوائز وهو يعيش ويعمل حاليا ما بين بين بيروت وأربيل.