في إلغاء المشاهير

هل وصلنا إلى مرحلة يتم فيها إلغاء المشاهير ورفض ما نتج عن وسائل التواصل الاجتماعي خلال العقد الماضي؟ وهل ما يحدث اليوم ثورة على صناعة التفاهة؟
هل نحن في نهاية حقبة تعظيم مشاهير التواصل الاجتماعي ومشاهير عالم الترفيه من غناء وتمثيل وأزياء وتجميل؟
هل سئم الأفراد من تعاظم الثروات وتعاظم الأنا لأشخاص يستعرضون تفاصيل حياتهم غير المهمة على وسائل التواصل الاجتماعي؟ أشخاص جلّ ما يفعلونه تسويق وبيع كل شيء ولا شيء على مدار الساعة، وحين احتاجهم الجمهور ليكونوا صوته، خذلوه.
نلاحظ في الفترة الأخيرة ثورة إلكترونية غربية – عربية على المشاهير.. لكن كيف بدأت ولماذا؟ وهل حقا السبب هو صمت المشاهير عمّا يحدث في غزة، أم هناك رواسب وجذور لما يحدث؟
◄ ربما سيلحد الإنسان قريبا بكل التفاهات والادعاءات والقشور.. وسط مشهد الركام والجثث الملقاة بين سراديب حاضره ومستقبله
لسنوات طويلة كان هناك تضخيم ودعم لمشاهير الغناء والتمثيل والأزياء ومشاهير التواصل الاجتماعي وإعجاب بهم ومحاولة التشبه بهم وللحصول على نوعية الحياة التي يسوّقون لها.
يطمع الإنسان لعيش حياة مرفهة حيث الوفرة والثروة، خاصة في ظل عالم رأسمالي ممتلئ بالتحديات.. إنها عجلة لا ترحم.
لكن المشكلة تكمن في أن هذا النظام بات يشجع الاحتكار أكثر من نهج السوق المفتوح والتنافسية، وبات يعزز للماديات والشكليات وربط قيمة الفرد بالأرقام.. أعداد المتابعين، أعداد المشاهدات، أصفاره في البنوك، مع إعطاء قيمة وأهمية أقل للمضمون الفكري والعقلي والأخلاقي والفلسفي للأفراد. والنتيجة ظهور صراعات حقيقية اليوم في العالم، وقوف الإنسان أمام المرآة ومحاولة تقييم واقعه، وربما التحرر من مصفوفة رقمية قائمة على الوهم والأكاذيب، ومن مصفوفة دول أصبحت أشبه بمول كبير تتعامل مع كل شيء بما فيه الأفراد على أنهم سلع قابلة للبيع والشراء.
ومن تبعات هذه المنظومة، ظهور فجوة متعاظمة بين أقلية تملك وتتمتع بالرفاهية أو وهم الرفاهية وأكاذيبها وتعزز مبدأ الحصول على “الأموال السهلة” بغض النظر عن حقيقة مصدرها، مقابل أغلبية مكبلة في سجن الوظيفة من الساعة التاسعة إلى الخامسة، تعمل وتكدح أكثر من 10 ساعات يوميا في عمل واحد أو أكثر، تحاول إثبات جدارتها وأحقيتها في مجاراة متطلبات الحياة العصرية المتزايدة في الحجم والسعر؟
نعود إلى فئة المشاهير، ما ذنبهم في خضم كل هذا؟ ولماذا كل هذا السخط والغضب عليهم فجأة؟
برأيي، ربما صمتهم عمّا يحدث في العالم، خاصة في غزة كانت الضربة القاضية في استفزاز الجماهير، لكن الأمر يتعدى ذلك. هذه الفئة تعزز دون إدراك منها منظومة النظام الجديد القائم على الرأسمالية والماديات البحتة كما ذكرت سابقا، في ظل تحديات أمنية سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة للغاية تعاني منها معظم المجتمعات، وفي ظل ازدياد الحروب والصراعات والتهديدات الأمنية والاقتصادية شرق هذا العالم وغربه.
أي في كلمات أخرى، هذه الفئة هي أدوات النظام العالمي الجديد.
◄ الإنسان يطمع لعيش حياة مرفهة حيث الوفرة والثروة، خاصة في ظل عالم رأسمالي ممتلئ بالتحديات.. إنها عجلة لا ترحم.
فئة تحاول الحصول على الأموال وتحقيق أحلامها لكن على حساب الأفراد والمجتمعات، مفصولة ومفصومة عن الواقع، تعزز مشهدا غير حقيقي، حياتها قائمة على تشتيت الجماهير وإلهاء عقولهم بكل ما هو سطحي وغير مفيد، تعظيم ما لا يقدم أيّ شيء عملي مفيد ولا يضيف لتاريخ البشرية أيّ جديد. مقابل معاناة الإنسان العادي الذي يدفع ثمن الحروب والصراعات والأزمات الاقتصادية من أمواله وصحته وأحلامه ووجوده، دون تقديم أيّ تعاطف أو مساندة لهم، ومقابل تهميش للنخبة الفكرية للعقول والحكماء.
تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام النافذة الترويجية لهذه المجموعة التي تستمر في التمدد بتجارتها وأموالها ومشاهداتها واستعراضاتها دون محاولة استخدام منصاتها ومسارحها التي تتابعها الملايين في التوعية أو الحديث بشكل أكثر عما يحدث في هذا العالم المتشرذم.. من غزة والضفة إلى جنوب لبنان إلى السودان واليمن وسوريا والكثير من الدول المتداعية في قطاعاتها الأمنية والاجتماعية والإنسانية والأخلاقية.
الشرق الأوسط يتداعى والمواطن يجلس على ركام، ومشاهير العرب يستعرضون سياراتهم وحقائبهم وتجارتهم.
الغرب يقف أمام نفسه في مراجعة إنسانية أخلاقية لمبادئه وشعاراته وديمقراطيته وقوانينه أمام ما يحدث في غزة والعالم. وأميركا في تحد حقيقي أمام ديمقراطيتها وحرياتها، في ظل ما يحدث في مسرح جامعاتها من قمع للتظاهر والتضامن مع الفلسطينيين والمطالبة بضرورة وقف إطلاق النار. وفي الوقت الذي يدفع فيه المشاهير أكثر من 70 ألف دولار للذهاب إلى حفل “ميت غالا” يستعرضون أزياءهم والترويج لمنتجاتهم.. يصورون أفلاما، ويقيمون حفلات غنائية دون محاولة الحديث عمّا يعاني منه العالم.
لعل المشاهير انعكاس لواقع مظلم عميق، فالمجتمعات الحديثة في هذا النظام صُمّمت ليكون كل فرد فيها يهتم فقط بمنزله ولا يكترث بما يحدث في منزل جاره. وهو ما أوصل البشرية التي تعيش في فقاعة القرية الصغيرة إلى دول لا تكترث بما يحدث للآخرين. كل طرف فيها يحاول النأي بنفسه قدر الإمكان عن مصائب الآخر، ويحاول التقليل من أثر تداعيات الأحداث التي تقع على الآخر.
وربما سيكولوجية الإنسان الحديث تتجلى بأن التعاطف يتعاظم بقدر تعاظم الفاتورة التي يدفعها من الأحداث، وبقدر قربه جغرافيا من الصراعات والحروب. لكن في نهاية اليوم يبدو المشهد وكل فرد فيه يهتم بمحيطه فقط.
محاولا حماية مصالحه، كل فرد يجاهد في بناء سفينة نوح شخصية لعله ينجو من طوفان مُحتمل دون محاولة دعوة جيرانه وإنقاذهم.
◄ لسنوات طويلة كان هناك تضخيم ودعم لمشاهير الغناء والتمثيل والأزياء ومشاهير التواصل الاجتماعي وإعجاب بهم ومحاولة التشبه بهم وللحصول على نوعية الحياة التي يسوّقون لها
المشهد أشبه بثورة الجياع الفرنسية، والمشاهير فيها يصرون على تبني شعار ماري أنطوانيت: “دعهم يأكلون الكعك”.. فهل اقترب سقوطهم؟
وهل ما يحدث هو بداية التمهيد لحقبة جديدة؟ هل ظلمات الواقع ستطغى على أيّ وهم رقمي؟
هل بدأ الإنسان يشعر بالضجر والملل من الشكليات والقشور الزائفة؟ هل يحتاج الإنسان إلى أفراد يتكلمون بصوته ويدافعون عن حقه في الحياة؟
ربما..
ربما بدأ الإنسان يحتاج إلى مرآة حقيقية تعكس واقعه ليتمكن من إنقاذ ما تبقى له من فتات.
ربما سيلحد الإنسان قريبا بكل التفاهات والادعاءات والقشور.. وسط مشهد الركام والجثث الملقاة بين سراديب حاضره ومستقبله.
وربما سيقتصر الأمر على مجرد “ترند” جديد، وجل ما يفعله الإنسان هو تفريغ غضبه وسخطه بشكل عابر على أدوات النظام، دون محاولة قيادة ثورة حقيقية على النظام العالمي الجديد.