في أحوال ثلاثية الثائر والفاسد والبلطجي

المهرج في فيلم "الجوكر" تأبط السلمية كي يحمي ذاته في عالم مجنون نخره الفساد حتى العظم.
الجمعة 2019/12/27
جوكر لبناني غامض ومُقلق حتى لنفسه

يخاطب بطل فيلم “الجوكر” ذاته قائلا “كنت أعتقد أن حياتي مأساوية، لا.. إنها كوميدية”.

لم يكن “الجوكر” (المهرج) في كلماته يتكلم فقط عن ذاته، بل كان يتحدث عن محيطه وعن اشتباكه معه في علاقة مُعقّدة يصعب تصنيف كل عنصر فيها بمعزل وتضاد مع العناصر الأخرى.

لاقى الفيلم رواجا كاسحا، وردت أغلبية الآراء هذا النجاح إلى انتمائه إلى عالم معاصر بائس يسوده الإحساس بالعزلة والفقر والتهميش والبطالة، ما نتج عنه من نشوء تصرفات عنيفة/ أنانية.

أما “كوميدية” الحياة فمتأتية من الوهن نتيجة إخفاق محاولات البشر في الانتصار على الوجع وفي تصنيف الشر والخير، الممكن والمستحيل.

ويقع الالتباس مدويّا في نفس مُشاهد الفيلم مانعا إياه من التعاطف كليا مع هذا أو ذاك الطرف في سياق تخترقه رجّات لا تنفك تُفسد الأمور والمواقف تجاهها.

دخل وجه الجوكر إلى ساحات الثورة اللبنانية في أوج انتشار الفيلم، ونذكر هنا سينتيا أبوجودة المخرجة الفنية في عالم التصميم التي لوّنت وجهها بقناع الجوكر الذي يرمز إلى الموقف اللبناني المُتّحد بوجه واحد لأول مرة ضد سلطة لا تسمع ولا ترى ولا تقيم أي وزن للشعب، وتُمعن في نهبه وشرذمته بسلاح الطائفية. كما رسمت مجموعة “أشكمان” المشهورة في فن الغرافيتي اللبناني وجه الجوكر بصيغته اللبنانية في بداية الثورة.

ثم تجلّت ظاهرة الجوكر ليس بظاهرة فحسب، بل بما يمثّل من صراعات نفسية في ساحات الثورة. فهو الثائر التراجيدي الخارج عن صمته وعزلته ليتصل بباقي “المهرجين” في كافة المناطق اللبنانية في لحظة وعي جارحة ومجروحة. غير أنه خلافا لمهرج فيلم “الجوكر” تأبط السلمية كي يحمي ذاته في عالم مجنون نخره الفساد حتى العظم.

الجوكر المتمرد
الجوكر المتمرد

من يعيش في لبنان يدرك أن السلمية اللبنانية الملامح هي حاميته وناحرته في الآن ذاته، لذلك تخبّط “جوكر” لبنان ولا يزال إلى الآن في وحول الوهن حينا ونار الحماسة حينا آخر.

يبقى المهرج/ الثائر/ السلمي اللبناني غامضا ومُقلقا حتى لنفسه. غير موجود ليضحك أو يُضحك بل ليخترع تغييرا في الواقع المسيطر عليه شيطان متجذّر غذّته جهات خارجية وداخلية، وليخترع ذاته من ضمن عبثية مُؤطرة تمتلك قوانينها الخاصة.

وشهدت أولى أيام الثورة “الثائر الشيطاني” الذي دمّر المحلات الأنيقة والفاحشة الثراء في وسط بيروت قبل أن ينكفئ بعيدا عن الساحات أو يروّض نفسه ليصبح ثائرا سلميا صرخ بوجه السلطة “ليسقط حكم المصرف”.

وهناك نوع آخر من المهرجين، “بلطجية” السلطة الذين تحركوا بإشارة منها. دخلوا إلى الساحة ليخرّبوا الثورة فدمروا الخيم المنصوبة وتعدّوا على الثوار السلميين. لكن لأي حد يمكننا فصلهم كليا عن الثوار الأنقياء؟ فهؤلاء التعساء قد تخلّوا عن الأمل بحياة كريمة ليبيعوا أرواحهم للسلطة الفاسدة. ارتدوا قسوة الحياة حتى باتت جلدهم الكاسي لأرواحهم. انتقامهم من الآخر الذي لا يزال يتمسك بالأمل جاء عدوانيا تجاه الذات قبل أي أحد آخر.

ويحلو لنا هنا أن نحيل مشاهد المدينة الغاصة بالنفايات في فيلم “الجوكر” إلى مدينة بيروت التي تعاني من هذه الآفة. من رمزيتها نشأت نزعة تدمير كل ما هو نقي في داخل الجوكر المتحوّل إلى بلطجي. غير أن الرمزية ذاتها لم تتمكن في ناحية أخرى من تدمير نفحة الأمل في نفوس كل الثوار. هؤلاء استمروا ناصعين في إنسانيتهم.

وإذا كان فيلم “الجوكر” يستعرض أصناف المهرجين من الثائر السلمي والثائر العنيف والثائر البلطجي ففيلم “الشيء” أو “إت” يستعرض بدوره المهرج الفاسد المُلقي بظله على كل أصناف الثوار.

وجه المهرج المخيف في هذا الفيلم يختلف عن وجه المهرج في فيلم “الجوكر” الإنساني المتضرّج بآلامه. أما المتصدون لمهرج فيلم “الشيء” الدموي فهم مجموعة أولاد يشبهون الثوار العنيفين والسلميين والبلطجية على السواء لأسباب مفهومة نفسيا واجتماعيا.

الثائر التراجيدي الخارج عن صمته
الثائر التراجيدي الخارج عن صمته

أدرك هؤلاء الأولاد/ الثوار المسكونون بمخاوف جمّة أن المدينة هي ضحية لطاعون الفساد الذي يقتل دوريا أولادا كثرا (كما في لبنان). مخاوفهم شبيهة بمخاوف الثوار اللبنانيين: الخوف من المستقبل، ومن الإخفاق، ومن الانفصال عن الأحباب لداعي الهجرة أو بسبب الموت فقرا أو مرضا.

ربما يبقى أقصى ما يمكن التأمل فيه هو الشبه القائم ما بين الثوار والفاسدين ونقطة التقائهم الغرائبية التي هي الجنون. فالثائر والفاسد هما انعكاس واحد في نفس المرآة الوجودية، ولكن في تناقض مع جنون الآخر.

يبقى اختلاف خارق: عندما ارتدى الثائر قناعه لم يعُد قادرا على الانفصال عنه وعمّا يمثله من صراع مع العالم الكئيب. أما الفاسد فقد ارتدى قناعه مع الاحتفاظ بإمكانية خلعه متى يشاء، ممّا أمّن له فسحة استراحة من الجنون. هذا المهرج الفاسد يكذب على ذاته وعلى الآخرين بتناغم مع ما ينتجه من فساد وإجرام.

وقد تجلّى جنون الفساد كقناع خطير ومُتعامل معه بخفة فائقة حينما خرج رئيس الجمهورية اللبنانية في أكثر من إطلالة خلال الثورة التي بحّ صوتها بالمطالب بسؤال فاحش “ما هي مطالبكم يا ثوار؟”. تماما كما حصل في فيلم “الفكاهة القاتلة” ما بين باتمان والمهرج “أتيت لأتكلم معك. لكي نصل إلى تفاهم مشترك”. من النافل قوله إن الخراب هو ما نتج عن هذا الشرخ الجنوني.

في إحدى مظاهرات الثورة طلب منادي من على منصة ما يُلخّص درامية الواقع “رجاء ليخلع الجميع أقنعة المهرج. كلنا نعرف بعضنا هنا”. لكن هل صحيح أننا كلنا نعرف بعضنا؟

17